Advertisement

مقالات لبنان24

رحلة ناصيف وعائلته مع السرطان وصولاً إلى الموت كما ترويها شقيقته

ربيكا سليمان

|
Lebanon 24
21-09-2017 | 06:40
A-
A+
Doc-P-369481-6367055852404738741280x960.jpg
Doc-P-369481-6367055852404738741280x960.jpg photos 0
PGB-369481-6367055852431364221280x960.jpg
PGB-369481-6367055852431364221280x960.jpg Photos
PGB-369481-6367055852422856061280x960.jpg
PGB-369481-6367055852422856061280x960.jpg Photos
PGB-369481-6367055852414448051280x960.jpg
PGB-369481-6367055852414448051280x960.jpg Photos
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
كأني بها تقتلع الحزن من ذاتها المنهارة، وتُمسكه بإيمان صلب محاولة تهدئته، فتهمس في أذنه: "عليك أن تتنّحى جانباً الآن. في هذه اللحظات، إهدأ! فأنا، عليّ أن أروي تفاصيل رحلتنا مع السرطان. مع هذا المرض الذي خطف أخي للتوّ. عليّ أن أوصل الرسالة. أن استجمع النعم. أن أنتصر للحياة، لأخي الملاك. لجميع الموجوعين وجميع المنتصرين. عليّ أن أمجد الله". وتنجح "باسكال" في ذلك! تضع حزنها ووجعها جانباً، وبجرأة وإيمان وصلابة، تتحدث عن رحلة انتهت وأخرى بدأت، بعد وفاة شقيقها "ناصيف عوّاد" الأسبوع الماضي، إثر إصابته بـ "امبراطور كلّ الأمراض"، السرطان. ليس اقوى وأصعب وأبرز واعظم وأكثر إيلاماً من أخت تتحدث، ومخارج حروفها واضحة، عن رحيل شقيقها الذي دُفن منذ أيام. ليس أقوى من ذلك! فألف تحيّة... هي السيّدة باسكال عوّاد شاميليان، مُحدثتنا التي تُلخّص شهادتها شهادة ملايين الأشخاص من حول العالم، في زمن "وصلت فيه البشرية إلى القمر لكنها لم تقض بعد على السرطان؟"، تسأل. "رحلة" بدأت في تشرين الأول من العام 2016 وانتهت منتصف أيلول 2017، وفيها كثيرٌ من الألم، والأمل، والحزن، والمحبة، والغضب، والإيمان، والصمت والتراتيل والهزيمة والانتصار. وفيها كثيرٌ من الأعياد. وكثيرٌ من الأسفار في أسئلة المجهول. وكثيرٌ كثيرٌ من العبر... "نحن عائلة متماسكة جداً"، تبدأ شاميليان حديثها لموقع "لبنان 24"، في دلالة واضحة، إلى عظمة وجع الفراق. ثلاثة اشقاء (جورج، ناصيف وفيكتور) وهي. تعتصر الحنجرة، لكنها تُكمل:" في شهر تشرين الأول من العام 2016، شعر "ناصيف" بألم حاد في خاصرته، فتوّجه إلى الطبيب الذي أعطاه بادئ الأمر بعض الفيتامينات. لم تتحسّن حالته، فأجريت له فحوصات بيّنت أن ثمة شرياناً مقطوعاً عن الكبد، فتمت معالجته. لكن، أظهر تصوير "السكانر" وجود مياة في الرئتين، فطلب منه طبيبه إعادة الفحص، ما كشف عن بعض الأورام". "إنه 12 تشرين الثاني 2016". تاريخٌ شقّ في ذاكرة شاميليان جرحاً لا يندمل. وصل إلى يدها التقرير الصحيّ الذي يقول صراحة أن شقيقها مصاب بالسرطان. "حدا سحبلي الأرض من تجت اجريي". سرطانٌ أصاب البنكرياس وتمدد إلى حوض البطن والكبد. إنه تمدد! أنه كابوس. لقد أصبح في مراحله المتقدمة... تُخبر شاميليان أن الطبيب شرح لها لاحقاً أن سرطان البنكرياس لا يشي عن نفسه. عادة ما تظهر العوارض بعد تفشيّه وتقدّمه. لحظاتٌ كأنها دهور، عاشتها السيّدة التي كانت قد أبلغت أهلها أنها ستمرّ عليهم في ذلك اليوم. عدلت عن ذلك. قررت بسرعة انها لن تُخبرهم. هاتفتهم متذرعة انها مريضة. كان "ناصيف" هناك. سألها عن السبب، فكررت: "أنا متوعكة". وما هي إلا دقائق قليلة حتى عاود الاتصال بها بعد أن خرج إلى الحديقة: "باسكال...قوليلي شو في؟! أنا معي سرطان؟!". تستوقفها هذه اللحظة، فتتذكر أن "ناصيف" قال في مطلع العام 2016:" اشعر بأنني سأصاب بالسرطان هذه السنة". تُردف قائلة: "مع أنه كان يتمتع بصحة جيدة، بل انه كان متّبعاً نظاماً صحياً وأسلوب حياة مثالياً: لم يكن من المدخنين. كان يركض ساعتين في اليوم. لا يأكل اللحوم. لا يحتسي الكحول. يتناول السلطات على العشاء...". لم تعد "باسكال" مقتنعة بأن للغذاء الصحيّ علاقة بالموضوع. لكنّ رأيها لا يُعمم حتماً، إذ إن منظمة الصحة العالمية تؤكد عكس ذلك. ومع هذا، يبقى السرطان لغزاً ديكتاتورياً... تعود إلى وقائع اليوم المشؤوم. اضطرت أن تخبره الحقيقة، إنما "مُلطفّة": "في عندك شوية أورام بس مش خطرين". كانت قد حسمت أمرها: "لن نخبر أمي وأبي. إذا امي بتعرف بتموت. وإذا ماتت إمي..أنا بموت"، تقول. بدا "ناصيف" أكثر قوّة. ردّ عليها: "ما تعتلي همّ، على شو خايفة؟" بدأ الشاب، زوج بولا، ووالد ماريا (10 أعوام) والتوأم كارل وجاكوب (9 أعوام) رحلة العلاج.. والأعاجيب. خضع لأقوى علاج كيميائي "ما بتمناه لأعدائي"، تقول شاميليان. كلّ ذلك من دون إعلام والده ووالدته. فقط أخوته وزوجته والعائلة الحاضنة كانت معه في المستشفى شاهدة على عوارض العلاج وأوجاعه. علاجٌ أثرّ سلباً على كبده المصاب أصلاً. تُخبر شاميليان أنهم كانوا يعيشون في شخصيتين. تقصد على وجه التحديد هي وجورج وفيكتور وبولا وأفراد العائلة والأصدقاء الذين كان عليهم العثور، بالكاد، على مساحة للبكاء والغضب. كان عليهم أن يحرصوا على إبقاء الأمر سرياً، وفق رغبة "ناصيف" ايضاً، "حتى ما يزعلوا أهلي. عن جد كانوا ماتوا...". تضيف:" كنا بس نكون بالعلاج معو ويدقو اهلي كل واحد يهرب على اوضة ونصير نفوت ببعض". أخبرهم الطبيب آنذاك أن "ناصيف" لن يعيش طويلاً. "لن يعيش بالكاد شهراً، إلا اذا حصلت اعجوبة... الله يصبركن". تعلّق شاميليان: "ومع هذا، عشنا بانتظار أن تتحقق هذه الأعجوبة". حتى "ناصيف" كان واثقاً من شفائه. لم يبخل يوماً على الأمل. تقول شاميليان:" كان اخي عندو أمل اما انو رح يصحّ. مرة قال لي: بكرا بس صحّ بدي خبّر أهلي انو كان معي سرطان". اجبته بعدم الموافقة: "لشو. لأ، مش ضروري". فما كان منه إلا أن ردّ عليها قائلاً: "مبلى بدي خبرن، بتعرفي ليه؟ لحتى يعرفو شو ربّوا! تيعرفوا كيف قعتدو تحت اجريي وما كنتو تتركوني". كان ناصيف ممتناً وفخوراً بهذه العائلة المتماسكة والمُحبة. تتنهد باسكال، فتباغت حنجرتها صرخة "آخ" عفوية. تمضي السيدة شاميليان في تذكّر محطات رحلة المرض، والأعاجيب التي حصلت مع شقيقها. في كانون الأول، امتلأت رئتا "ناصيف" بالمياه، فأدخل المستشفى على عجل .في ذلك اليوم كانت قد شاهدت القديس شربل في الحلم، ممداً أمام باب المسبحة يُصلّي. بعد 15 يوماً، خرج شقيقها وعاد إلى المنزل، وهناك، وعندما كان الجميع مجتمعاً في حلقة صلاة المسبحة، توّعك مجدداً. لم بيد قادراً على تحريك يده ورجله وبدأ بالهلوسة. أعيد الى المستشفى على وجه السرعة، وكان في حال يُرثى لها. سقطت المسبحة من يده. أتت شقيقة زوجته إلى باسكال وسحبت من رقبتها مسبحة أخرى ووضعتها في يد "ناصيف" وراحت تصرخ: "قول يا سيدة بشوات. قول بدي اطلع لعندك حافي". فجأة، حرّك يده وجلس على السرير كأن شيئاً لم يكن، أمام ذهول الجميع، بما فيها طاقم المستشفى والأطباء الذين لم يفلحوا لاحقاً في كتابة تقرير حول حقيقة ما حصل معه. تنظر باسكال اليوم الى تلك الحادثة، بل الأعجوبة، لتخلص إلى أن التدخل الإلهي كان يحضرّهم رويدا رويدا: "حسابات الله ما حدا بيعرفها. يمكن قطعنا بالمرحلة لنتحضر وتخفّ الصدمة". ثم تُردف قائلة: "كنا بعيدين عن الصلاة قبل مرض أخي، لكنه جمعنا حولها. اليوم صرت أعرف المعنى الحقيقي للسجود أما القربان المقدس". مرّت الشهور ثقيلة جداً. علاجاتٌ وأوجاع وتمسك دائم في الأمل. الوالد والوالدة ليسا على علم بحقيقة مرض ابنهما، إنما كانا يعرفان انه تعرّض لـ "عارض". "صرنا عايشين بس لنشوف كيف هويّ اليوم. كانت الثانية بتفرق معنا ومعو. الثانية محسوبة. ياما كنت حسّ بدي نتّف شعري. اطلع بالسيارة ودوّرا وصير صرّخ جملة وحدة بس: ليه يا الله؟"، تقول شاميليان. مطلع هذا الصيف، سمعت والدها يعترف بأن حلم حياته زيارة ميديغورييه. كانت حالة "ناصيف" الجسدية مستقرّة، لكن ليست جيّدة. سرعان ما سألها زوجها مرافقة والدها: "لم أكن مهيأة للسفر. شوف بأي حالة أنا!". لكنّ هذه الرحلة تمّت بسلاسة فريدة: "كانت أسهل سفرة بحياتي. اليوم بعرف ليه صار هيك. العدرا كان بدنا نروح تنتعلم نعيش التجربة". أسبوع في ميديغورييه برفقة والدها. كل يوم، عند السابعة إلا ثلثاً، يرنّ الجرس ويُطلب من الجميع التزام الصمت والخشوع، باعتبار أن العذراء تمرّ لتبارك الناس من حول العالم في هذا التوقيت. في اليوم نفسه الذي عادا إلى لبنان، دخل "ناصيف" المستشفى بسبب تدهور حالته. كان ذلك في 22 آب . تمّ إعلام الوالدين بحقيقة المرض. تُعلّق "باسكال": "كل العالم بروحو على ميديغورييه وبيرجعو حاملين نعم. أنا ما جبت معي ولا نعمة وقتا. غضبت على العدرا وعلى الكل.. اليوم صرت اعرف ليش هالشي كلو صار". عندما عادت "باسكال" إلى لبنان، ضبطت المنبه في هاتفها على السابعة إلا ثلثاً (أي الثامنة إلا ثلثاً بتوقيت لبنان)، لتصلي المسبحة. في 15 أيلول، كان الجميع في المستشفى مع "ناصيف". كان يشدّ طوال الوقت على أسنانه. كان الألم واضحاً. تقول: "رنّ المنبه، فبدأنا بالصلاة. قلت للعذراء: اذا بدك إياه خذي وما بقى تعذبي. واذا بدك تخليلنا إياه، رجعي مثل قبل. بعد خمس دقائق فقط اكتشفنا أن "ناصيف" فارق الحياة. لم يُصدّق أحد. لقد مات بسلام كبير. لم يصدر عنه أي صوت. أي صرخة. لم يصدق الممرضون. سارعوا إلى اجراء تخطيط لقلبه للتأكد من موته". تضيف: "أخي بطل. قد ما قلك خيي بطل. ما كان بدو يروح.. كان متمسك بالحياة، لانو قاوم لآخر نفس ويقول انا مش خايف من المرض". في تلك الليلة، خرجت باسكال إلى سيارتها. صرخت بالعذراء: "اخدتي؟! اوكي خذيه...بس بدي منك تقوليلي انو هوي بمحل أحسن. بس قوليلي". تخبر"باسكال" أن "بولا"، زوجة "ناصيف" اخبرتها انه في ليلة وفاته، كان ابنه كارل مصرّاً على رؤية والده. بكى كثيراً في المنزل قبل أن يرتدي أخيراً قميصاً لوالده ويغفو فيه طوال الليل. شعر الطفل بموعد الرحيل... نثر الأولاد الأرزّ والورد على جثمان والدهم. راحوا يرددون: "بابا صار ملاك". والدة ناصيف لا تفلح حتى الساعة بتقبل الموضوع. تقول من فرط اساها: "أنا أحق بابني من الله". عندما نسأل "باسكال" الآن عما اذا كانت تعتبر قرار إخفاء حقيقة مرض "ناصيف" عن الوالدين صائباً أم خاطئاً، تشي نبرتها بحيرة، لكنها سرعان ما تجيب بحسم: "أنا عشت الأيام كلها معو وبعرف شو يعني هالحياة. لو عرفوا أهلي ما كانوا قدروا تحملو وماتوا من زمان. أصلاً ناصيف ما كان بدو يخبرن مع انو كان يقول دائماً "لو بس بتحط امي ايدها عليّ، بصحّ". ومع هيدا، أهلي يقولو اليوم انو لو عرفو من قبل كانو قدروا قعدوا معو اكثر". جلجلة قاسية تعيشها العائلات مع مرض السرطان. الوجع يصيب الجميع. كان "ناصيف" قويّاً، لكنّ العلاج أرهقه وأغضبه في أوقات كثيرة. كان دائم الترداد:" إذا مش ع وقتي، بالمستقبل القريب بتمنى يلاقو دوا للسرطان لانو انا بعرف شو يعني الوجع". بعد هذه المحنة المأساوية، أي رسالة يمكن أن تخلص إليها "باسكال"؟ تقول: "رسالتي هي: طول ما نحن عايشين، نضلّ عم نهتم بعيلتنا وبأهلنا وبأصدقائنا. قدّ ما فينا نحبّ... الواحد بكون عايش حياتو على أساس انو هوي قادر يسيطر على كل شي، فجأة بحس انو كل شي راح من بين ايديه. انا خيي ما بقى رح شوفو، وهيدا الشي كثير كثير بحزني. الدنيا ما فيها شي الواحد يعمل مشاكل ويعصب ويزعل من هيدا أو هيداك. الفخر واضح في صوت السيدة شاميليان. العائلة بجميع أفرادها أظهرت عن محبة وتضامن قلّ نظيرهما. زوجة ناصيف، حماته، أخوتها...الجميع من دون استثناء. "نحن لا ننهزم. لا نترك المرض ينتصر علينا. نحن نؤمن بالقيامة"، تقول "باسكال" وهي مطمئنة القلب:" منذ يومين، وصلتني الإجابة على سؤالي. حلمٌ راود ابنة عمتي وفيه "ناصيف" في حديقة جميلة يقول انه مرتاح جداً. حلمٌ آخر أتى فيه الرجل إلى ابنه طالباً منه أن يكون "قبضاي". شهادة حياة تحاكي تجارب الملايين. ويبقىى السؤال: "متى تنتصر البشرية على السرطان بالعلم والطب، فيكون الانتصار انتصارين"؟!
Advertisement
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك