إذا كانت ما اصطلحت على تسميتها بتفجيرات البيجر خلّفت وراءها صدمة كبيرة يصعب محوها، في ضوء الفاتورة البشرية الباهظة التي ترتّبت عليها، ولكن أيضًا الضرر النفسي والميداني، ولا سيما أنّها عُدّت الاختراق الأكبر لـ"حزب الله" في تاريخ الصراع بينه وبين العدو الإسرائيلي، فإنّ ما لم يتوقّعه أحد أن يتجدّد النمط نفسه من التفجيرات خلال 24 ساعة فقط، وإن استهدفت في موجتها الثانية نوعًا آخر من الأجهزة اللاسلكية.
ففي وقتٍ لم يكن اللبنانيون قد استفاقوا بعد من "صدمة" التفجيرات التي استهدفت أنظمة الاتصالات التي يحملها عناصر الحزب باليد، والتي تُعرَف بالبيجر، وفي وقتٍ كان النقاش لا يزال جاريًا حول كيفية حصول الخرق، ومصدر الأجهزة المستهدَفة، وما إذا كانت قد فُخّخت قبل وصولها إلى لبنان، جاءت الموجة الثانية من التفجيرات لتزيد من حجم القلق والتوتر، بل لتفاقم "خطورة" الرسائل التي يبدو أنّ العدوّ يريد إيصالها "بالنار".
وعلى الرغم من التحذيرات الدولية التي تصاعدت خلال الساعات الماضية، من مغبّة الانزلاق إلى مواجهة كبرى، قد تتحوّل سريعًا إلى حرب إقليمية شاملة ليست في مصلحة أيّ فريق، فإنّ التفجيرات التي ترافقت مع استنفار إسرائيلي يصحّ وصفه بغير المسبوق، جاءت لتعزّز من مستوى التكهّنات، وسط مخاوف جدّية من أن يكون ما جرى في اليومين الماضيين، مقدّمة للحرب التي يلمّح الإسرائيليون إلى أنّ قرار المضيّ بها قد اتُخِذ، أيًا تكن العواقب...
رسائل "نارية"
إذا كان من الصعب "تفكيك" شيفرة الاختراق الإسرائيلي غير المسبوق لشبكة اتصالات "حزب الله"، بدءًا من البيجر، وصولاً إلى الأجهزة اللاسلكية، ولا سيما أنّ علامات استفهام كبرى لا تزال بلا جواب، عمّا حصل، وأدّى إلى هذا "الانكشاف"، إن صحّ التعبير، فإنّ "تفكيك" رسائل الاستهداف المزدوج لا تبدو بالصعوبة نفسها، وهي رسائل "نارية" تتقاطع على حقيقة أنّ تل أبيب قرّرت تجاوز كلّ الخطوط الحمر، والتصعيد حتى النفس الأخير ربما.
في هذا السياق، يمكن الحديث عن أبعاد عدّة للرسائل الإسرائيلية "النارية"، بمعزل عمّا إذا كانت تحضّر الأرضية للحرب كما استنتج كثيرون أم لا، منها تأكيد "تفوّقها" التكنولوجي والتقني، ليس في مواجهة "حزب الله" فحسب، بل في مواجهة كل خصومه، فما تمتلكه من إمكانيات على هذا الصعيد، فضلاً عن الدعم الذي تتسلّح به من دول الغرب، لا تضاهيه إمكانيات، بل قد يكون كفيلاً بضرب نقاط قوة الخصوم، التي قد تنعدم إذا ما خسر القدرة على التواصل.
في المؤشرات أيضًا، يمكن الحديث عن رسالة "ردع" تريد تل أبيب إيصالها إلى "حزب الله"، ومفادها أنّها قادرة أن توظّف التكنولوجيا لقلب موازين القوة على الأرض وفي الميدان، فإذا كان الحزب استطاع مثلاً أن يحتوي تكتيك "الاغتيالات" الذي اعتمده الاحتلال على امتداد الأشهر الماضية، وفقد الكثير من فعاليته في الأسابيع الأخيرة، فإنّ كلّ تدابيره الاحترازية قد لا تكون مجدية في مواجهة أنماط أخرى وغير تقليدية من الحرب السيبرانية مثلاً.
مؤشرات الميدان
تحتمل الرسائل الإسرائيلية النارية خلف الاستهداف "المزدوج"، الذي يُخشى ألا تكون فصوله قد اكتملت، أكثر من وجه إذاً، فهي قد تكون مقدّمة للحرب، علمًا أنّ بعض التحليلات أشارت إلى أنّ المخطط كان أساسًا أن تكون ضربة "افتتاحية" لحرب شاملة، كما قد تكون محاولة أخرى للضغط على "حزب الله" من أجل تقديم بعض التنازلات، والتراجع عن تصلّبه، وخصوصًا عن إصراره على الربط بين جبهتي لبنان وغزة، من دون فتح الباب حتى أمام أيّ نقاش.
من هنا، تتّجه الأنظار إلى الميدان، الذي حمل بدوره بعض المؤشّرات، ففيما كان "حزب الله" يحرص على استعادة مسار الإسناد لغزة، في محاولة للقول إنّ أهداف العدوان الجماعي لم تتحقّق، كانت إسرائيل تعزّز من استنفارها وتأهّبها، الأمر الذي تجلّى بشكل خاص مع قرار قيادة الجيش الإسرائيلي نقل الفرقة 98 التي شاركت في اجتياح 1982 وحرب 2006، من غزة إلى الشمال، في إشارة ضمنية إلى حساسية توسّع القتال على هذه الجبهة.
بالموازاة أيضًا، كانت لهجة المسؤولين الإسرائيليين تتصاعد أيضًا، فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو جدّد الحديث عن إعادة مستوطني الشمال بأمان إلى منازلهم، ووزير الدفاع يوآف غالانت تحدّث عن انتقال مركز الثقل إلى الشمال، وعن بدء مرحلة جديدة في الحرب مع لبنان، ورئيس الأركان هرتسي هاليفي توعّد "حزب الله" بدفع ثمن أكبر من الذي دفعه سابقًا، وكلها تصريحات تتقاطع على عنوان واحد، وهو أنّ التصعيد بات مفتوحًا على كل الاحتمالات.
بدأت الحرب. يجزم كثيرون بذلك، باعتبار أنّ تفجيرات اليومين الماضيين لا يمكن تصنيفها سوى على أنّها "إعلان حرب"، علمًا أنّ بدء الحرب لا يتمّ بإعلان، أو بصافرة ما، بل بحدث أمني كهذا تحديدًا. لكنّ هذا الرأي يصطدم بآخر، يعتبر أنّ ما حصل في اليومين الأخيرين قرّب الحرب ربما، لكنّه على خطورته لم يحسمها، على الأقلّ بانتظار ردّ فعل "حزب الله"، في السياسة قبل الميدان، وهنا بيت القصيد!