كتب موقع "الشرق": يطرح الانقلاب العسكري الأخير في بوركينا فاسو، الذي قاده النقيب إبراهيم تراوري في 30 أيلول 2022، تساؤلات كثيرة بشأن عودة النمط الانقلابي الكلاسيكي في السياسة الإفريقية.
ويُلاحظ أن منطقة غرب إفريقيا وحدها، منذ آب 2020 إلى مطلع تشرين الأول 2022، سجّلت 5 انقلابات ناجحة، بما في ذلك اثنان في مالي واثنان في بوركينا فاسو، وانقلاب أطاح بالرئيس ألفا كوندي في غينيا، إضافة إلى محاولتين انقلابيتين.
شهدت القارة الإفريقية بحلول عام 2012، أكثر من 200 انقلاب ومحاولة انقلاب منذ الاستقلال في أواخر خمسينات ومطلع ستينات القرن العشرين. كانت هناك محاولة انقلابية كل 55 يوماً، في الستينات والسبعينات، وعانت أكثر من 90% من دول القارة تجربة انقلابية واحدة على الأقلّ. وأُطلق على ذلك تسمية "متلازمة الرجل القوي"، في إشارة إلى أهمية دور الجيش في السياسة بإفريقيا.
لماذا عادت ظاهرة الانقلابات؟
بعد انتهاء الحرب الباردة، أُطلقت برامج للتحوّل نحو التعددية السياسية في إفريقيا. وكان المأمول تحرير القارة من ظاهرة الانقلابات العسكرية، لمصلحة التعددية السياسية وسيادة القانون.
وفي عام 2000 أُقرّ "إعلان لومي"، في مواجهة التغييرات غير الدستورية في الحكومات الإفريقية، و"الميثاق الإفريقي للديمقراطية والانتخابات والحوكمة"، وكلاهما يرى في الانقلابات أبرز تهديد للسلام والأمن في القارة.
وبعد عقود، كان يُفترض أن تتراجع وتيرة الانقلابات العسكرية، إن لم تصبح شيئاً من الماضي، وأن تختفي ظاهرة "الرجل القوي" التي ميّزت نمط العلاقات بين المدنيين العسكريين في إفريقيا منذ الاستقلال.
بات من الأقوال المأثورة المرتبطة بفقه الدولة المدنية في التراث الليبرالي الغربي، أن "الجيش والسياسة لا يجتمعان، فإذا دخل الجيش من الباب خرجت السياسة من الشباك"، وهذا دليل على موت السياسة في حالة سيطرة الجيش على السلطة.
ومع ذلك يثير دور الجيش في إفريقيا تساؤلات، بينها: ما هي درجة الفصل الذي يجب أن تكون بين الحكومة المدنية والجيش؟ هل يجب أن يكون الجيش خاضعاً تماماً للنظام السياسي وفقاً لمبدأ حياد المؤسسة العسكرية؟ أم ينبغي السماح للجيش بمقدار من الاستقلال الذاتي من أجل حماية الأمن القومي؟
في الآونة الأخيرة، باتت واضحة أخطار الانقلابات العسكرية، كما شهدتها دول غرب إفريقيا. ومع ذلك، تتسم المجتمعات الإفريقية غالباً بوجود دولة هشّة أو فاشلة، تكون عاجزة عن أداء مهماتها والحفاظ على عملها، بطريقة منظمة وممكنة اقتصادياً من دون تدخل عسكري.
يمكن الحديث عن عوامل كثيرة تفسّر تصاعد مدّ الانقلابات العسكرية في غرب إفريقيا خلال العامين الماضيين.
أولاً: هشاشة الأمن وتحدّي "القاعدة" و"داعش"
لم تعُد الأسباب العرقية والإثنية هي الحافز الأساسي للانقلابات، كما في الستينات. ففي كانون الأول 2022، أطاح المقدّم بول هنري داميبا وبعض وحدات النخبة في جيش بوركينا فاسو، بالرئيس المُنتخب ديمقراطياً روش مارك كريستيان كابوري، المُتهم بالفشل في كبح عنف متصاعد لمسلحين متشددين.
تماماً كما حدث بعد الانقلاب السابق، أعلن إبراهيم تراوري والجنود المتمردون أن حكومة داميبا فشلت في معالجة تمرد المتشددين بالشكل المناسب.
وأفاد "مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية" بأن بوركينا فاسو لا تسيطر على نحو 40% من أراضيها، نتيجة انعدام الأمن الذي تفاقم على مدار العام.
كما أن المنطقة الحدودية بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر لا تزال نقطة ساخنة لجماعات إرهابية، مثل جماعة نُصرة الإسلام والمسلمين التابعة لـ"القاعدة" وولاية داعش في الصحراء الكبرى، فيما تزيد وتيرة الهجمات في شمال وسط بوركينا فاسو، وجنوب شرقها وجنوب غربها.
وأدى العنف إلى نزوح نحو مليونَي بوركينابي في الشمال، كما أثارت التكاليف الإنسانية المترتبة على ذلك تظاهرات في كل أنحاء البلاد، ندّدت بعجز الحكومة عن وقف العنف، ناهيك عن غضب من عدم كفاية الموارد للجنود وأسر العسكريين.
يأتي انقلاب النقيب تراوري في ظلّ تصاعد العنف في شمال بوركينا فاسو، إذ تعرّضت مدن، مثل جيبو، لحصار دام أشهراً من جماعات إسلامية مسلحة، ممّا تسبّب بنقص حاد في الغذاء. كذلك سقط ما لا يقلّ عن 11 جندياً في 26 سبتمبر 2022 وأُبلغ عن فقدان 50 مدنياً، بعدما هاجم مسلّحون قافلة إغاثة إنسانية.
ويأتي ذلك بعد هجوم مماثل في 5 أيلول، أسفر عن مصرع 35 مدنياً. وتفيد تقديرات بأن بوركينا فاسو شهدت أكثر من ثلثَي أحداث العنف المرتبطة بالتشدد الإسلامي في منطقة الساحل عام 2022.
ثانياً: قواعد التأييد الاجتماعي
في كل الحالات الانقلابية المذكورة بغرب إفريقيا، استفاد الانقلابيون من ظروف مواتية بشكل موضوعي لأفعالهم، إذ أن سياق الاضطرابات الاجتماعية في مالي وغينيا وبوركينا فاسو، منح المجموعات العسكرية شرعية قوية، فاستفادت من دعم كبير من سكان المناطق الحضرية.
ويتمثل ذلك عادة في خروج ثلة من المتظاهرين، معربين عن فرحتهم بإطاحة الزعماء السابقين ومرحّبين بالحكام العسكريين الجدد. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى عودة ناشطين سابقين في غينيا، نفاهم ألفا كوندي.
وفي مالي، تمكّن العقيد عاصمي جويتا من إضفاء شرعية على انقلابه الأول، في آب 2020، من خلال تعهده بمكافحة الفساد، وحلّ مشكلة الأمن، بما في ذلك مسألة الطوارق في شمال البلاد وأزمة الفولاني في وسطها، اللتين استغلتهما الجماعات الإرهابية المسلحة في المنطقة.
هذا هو السبب في أن المجلس العسكري في مالي كان قادراً على الاعتماد على دعم المعارضة، في 5 حزيران، وزعيمها الكاريزمي جداً، الإمام محمود ديكو، أحد قادة المعارضة السياسية للرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا، والمعروف عنه مواقفه الحازمة المعادية للغرب.
أما في بوركينا فاسو، فقد كانت المعضلة الأمنية وملفات الفساد، المبرّر لتنفيذ الانقلابَين هذا العام.
لم يكن الاستياء من الفرنسيين أمراً جديداً في بوركينا فاسو. ففي نوفمبر 2021، أوقف متظاهرون قافلة عسكرية فرنسية مرات أثناء عبورها البلاد، نتيجة اقتناعهم بأنها تحمل أسلحة مخصّصة للجماعات المتشددة التي تُرهب مجتمعات الساحل منذ سنوات. وساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تضخيم تصرّفات الجنود الفرنسيين في بوركينا فاسو، وهي ظاهرة سبق ملاحظتها في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى.
سادساً: روسيا والحرب الهجينة
استغلّت وسائل الإعلام الرسمية الروسية، مثل "سبوتنيك" و"روسيا اليوم"، تنامي غضب شعبي ضد الوجود الفرنسي والغربي في إفريقيا، لتعزيز النفوذ الروسي في المنطقة، في ما يكشف بوضوح أهمية الحرب الهجينة في هذه المواجهة الجديدة بين موسكو والغرب.
من المفارقات أن فرنسا، من خلال فشلها في تحييد الجماعات المتشددة في المنطقة، ورغم حجم "عملية برخان"، تُعتبر مسؤولة، بل وحتى متواطئة، بحسب شعوب غرب إفريقيا ومنطقة الساحل.
وتنشر مواقع التواصل الاجتماعي بلا كلل، شائعات تروّج لهذا التواطؤ المفترض، والذي تتبنّاه صراحة بعض النخب السياسية الحاكمة، كما في مالي التي أعلنت طلاقاً بائناً مع فرنسا.
خلال الانقلاب الأول في بوركينا فاسو في كانون الأول، أشاد رجل الأعمال الروسي يفجيني بريغوجين، المقرّب من الكرملين والذي اعترف بتأسيسه مجموعة "فاجنر" شبه العسكرية، بالانقلاب باعتباره مؤشراً إلى حقبة جديدة من إنهاء الاستعمار.
هل بات الباب مفتوحاً أمام "فاجنر" في دولة إفريقية أخرى؟ يبدو من البيان الذي وقّعه النقيب تراوري أن لدى الانقلابيين الجدد "رغبة راسخة في الذهاب إلى شركاء آخرين مستعدين للمساعدة في مكافحة الإرهاب".
ورغم أن روسيا لم تُذكر صراحة، فقد طالب متظاهرون في واجادوجو بتبنّي نهج مالي في هذا الصدد، علماً أنهم حاولوا إحراق محيط السفارة الفرنسية ورفعوا أعلاماً روسية.
ولجأ جيش مالي إلى مدربين من "فاجنر"، استولوا أحياناً بشكل مباشر على قواعد تركها الجنود الفرنسيون أثناء إنهائهم "عملية برخان". وبات وجود أفراد هذه المجموعة المقرّبة من الكرملين، ذراعاً مسلّحة لنفوذ روسي متزايد في كل أنحاء دول إفريقيا الناطقة بالفرنسية.