"
من بعدك لمين؟" الطرب الأصيل يسأل عشاق فن الموسيقار الكبير ملحم بركات عنه، ليردوا بأسى: هكذا فجأة "السعادة وقعت بالبير وفرقنا الغامض متل العصافير". إذاً، غادر الصديق الصدوق للفن الاصيل الحياة عن عمر يناهز 74 عاماً، لتغرد روحه خارج سراب الأرض.. نحو السماء، تاركاً جيلاً متأثراً بإرث شديد الخصوصية في تراث لبنان الفني الحديث.
وداعاً ملحم بركات.. وداعاً لرقم صعب في عالم الفن.. وداعاً لروح كانت تنبض نغماً ولحناً وعزفاً.. وداعاً لمن حمل راية الاغنية اللبنانية وحارب من أجلها.. وداعاً لأنامل يد مزجت ما بين الطرب الأصيل والغناء المتجدّد، فخلقت أسلوباً عصرياً ومزيجاً جديداً في عالم الفن.. وداعاً لمن أحدث ثورة في موسيقاه ليتربع على العرش الموسيقي.. وداعاً لمدرسة اكتسبت من الرحابنة الكثير من الخبرات قبل أن تشق لنفسها "مدرسة ملحم بركات".
من هو ملحم بركات؟
بركات الذي تأثر بألحان والده وهو يعزف على آله العود، فكان يجلس الى جانبه ليراقبه بتمعن ويتعلم منه، ثم تذوق فن الموسيقار العملاق محمد عبد الوهاب، كان يلقب بـ" "مطرب الضيعة" في بلدته كفرشيما. بدأ مسيرته الفنية باكراً منذ أيام الصبا، حيث عزف أولى ألحانه في أحد الاحتفالات المدرسية، فظهرت موهبة متأصلة بالتلحين، وصوت يجمع العنفوان القوي والاحساس العميق. قيل عنه وقتها أنه "موهبة لا مثيل لها" ما حفزه للإنطلاقة الكبيرة في المدرسة الرحبانية، فقام بتلحين "يا حلوة شعرك داري" التي اشتهرت بصوت المطرب غسان صليبي. في تلك المرحلة، دخل بركات أولى مراحل النضوج الفني وبرز كملحن متميز بين الوفود الفنية الأخرى.
بعد 4 سنوات، اختار ملحم أن يشقّ طريقه الفني لوحده كي يبني شخصيّته الموسيقيّة والطربية والتلحينيّة. كسب الرهان وفعلاً بأصابع ذهبية ورؤى خلاقة، وصل الى الاحترافية بعد وقت قصير وأصبح نجماً. مسيرته التلحينيّة حافلة بعدد كبير من المطربين الكبار، نذكر منهم: وديع الصافي، صباح، سميرة توفيق، ماجدة الرومي، وليد توفيق ("أبوكي مين يا صبيّه")، بسكال صقر، ربيع الخولي، أحمد دوغان، ميشلين خليفة، إلخ. وكانت أولى ألحانه، "بلغي كل مواعيدي" (ثنائي بينه وبين جورجيت صايغ)، ثم ألحان مسرحية "حلوة كتير" للمطربة صباح، ومن بينها: "المجوز ألله يزيدو"، و"صادفني كحيل العين"، و"ليش لهلق سهرانين".
طموح ملحم لم يكن مقتصراً على التلحين، بل كان شغفه أوسع نحو الغناء والتمثيل. أولى أغنياته هي "الله كريم" ثم "سافر يا هوا" و "يا أسمر".شارك معظم أبناء جيله من كبار مغني لبنان مسرحيات وأعمالا مشتركة، كما اشترك بفرقة الرحابنة في عدد من مسرحياتهم الغنائية منها "الأميرة زمرد" و"الربيع السابع"، وبعد ذلك مسرحية "ومشيت بطريقي". خاض غمار السينما وقام ببطولة فيلم "حبي لا يموت".
سر نجوميته
ليست هذه فقط أسباب نجاح بركات واستمراريته في مسرح الفن الخائن لمحبيه قبل أعدائه، فالنجومية لا تصنع من الموهبة فقط، بل كان للموسيقار كاريزما خاصة به على المسرح. فتراه مثلاً يصرخ على الجمهور ويشتمهم أو يقفز فرحاً كالأطفال، فيضحك الجمهور حيناً وينصدم أحياناً من عفويته وصراحته الزائدة. من الناحية الفنية، كان لملحم حنكته في التلاعب على الانغام والكلمات على المسرح، فاشتهر في فن "السلطنة".
ترك بركات عائلة صغيرة مؤلفة من: مجد ووعد وغنوة وملحم جونيور، بالاضافة إلى عائلة كبيرة جداً من المحبين والمعجبين في لبنان والعالم العربي. تزوّج بدايةً من السيدة رندا عازار وهي أم أولاده، ثمّ تزوج من مي حريري فانجبا ملحم جنيور، قبل أن يطلقها لاحقاً.
في مستشفى "أوتيل ديو" كان الوداع الاخير.. لكن ذاكرة اللبنانيين من محبين وحتى كارهين لن تنسى موهبة استثنائية سبقت عصرها فأوصلت الأغنية اللبنانية الى العالمية عبر أهم المسارح العربية والعالمية في فرنسا، وأميركا، وأستراليا، وكندا، وقرطاج (تونس) وجرش (الأردن)، وغيرها من البلدان.. ذاكرة اللبنانيين لن تنسى "على بابي واقف قمرين"، "العذاب يا حبي"، "حمامة بيضا"، "بدك مليون سنة"، "جيت بوقتك".
نصف قرن من العطاء الفني.. و"انا كنت مفكر بعد بكير.. تاري لبصير عغفلة بصير". "ابو مجد" لن ننساك وستبقى حاضراً في قلوب محبيك بأعمالك الخالدة... وداعاً.