مرايا التاريخ وتركات الأجداد وبصمات من تعاقبوا على هذه الأرض، يختزنها ابن بلدة بر الياس البقاعية في عالمه الخاص، عالمٌ يشبه ومضات التاريخ الحضاري ويليق به، قوامه آلاف القطع الأثرية من تحف ولوحات وأحجار نادرة وسيوف ورماح وبنادق من زمن "أم فتيلة"، وأسلحة من كل العصور، وفضيات وآلات زراعية شبه منقرضة، وطوابع بريدية وعملات قديمة، تركاتٌ خلدها سليم عراجي في منزله البقاعي، الذي حوله الى متحف فريد من نوعه.
هواية عراجي الستيني، عمرها من عمر طفولته، هو من مواليد 1954، خدم في سلك الأمن العام 27 عاماً، وفي تكريم التاريخ مجمل حياته. "
لبنان 24" سأله عن تصنيفه لمتحفه فأجاب: "كل ما هو قديم لي علاقة به، وبفضل إرادتي وتصميمي وعزمي تمكنت من تحقيق حلمي وتكريم عائلتي التي أتت من المدينة المنورة قبل 270 سنة، وكنا من العائلات الميسورة، وما زال العديد من أقاربنا يملك مزارع خيل حتى يومنا هذا . كما أن جزءاً كبيراً من مجموعتي يخص العائلة وتاريخها، وبعضها من الأدوات الزراعية الموغلة في القدم، والتي شكّلت حجر الإساس بالنسبة الي في اقتناء التحف القديمة، من باب المحافظة عليها والحؤول دون اندثارها، وتخليداً لما تركه الإنسان على مر العصور، وكي لا تضيع هذه الكنوز في زوايا النسيان والإهمال. ولا أنكر أن السبب الرئيسي الكامن وراء تكوين هذه المجموعة الفريدة ، هو شغفي وهوايتي".
كل ركن من المنزل يعيدك إلى عصور مضت، لا يمكنك أن تفضل زاوية على أخرى، ومجرد وصولك إلى مدخل الدار تدرك أنك في حضرة التاريخ وأمجاده، وأن الإنسان يكرم نفسه وانجازاته. تلفت نظرك البنادق القديمة والمسدسات التاريخية التي يفوق عددها المئة قطعة، والتي تجسد مراحل تطور البنادق، من بندقية " أم فتيلة " إلى بارودة "أم صوان" وصولا إلى البارودة التي استخدمت " الكبسون"، ومسدسات " الطبنجة" التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، ومئات السيوف التاريخية التي تعود لقبائل الكابوتشي في السودان ،والتي تضم نقوشاً تؤرخ تاريخ صنعها .
كل شبر بندر
ولأنه لا يمكن ذكر مقتنيات المتحف في سطور سنكتفي بذكر بعضها، على أن تتولى المهمة الصور المعروضة والمرفقة. فإلى جانب مجموعة كبيرة من الأحجار النادرة هناك المحادل والأدوات الزراعية القديمة التي انقرضت منذ أعوام عديدة، ومجموعة من أدوات الخيل، والأجران التي تعود إلى العهد الروماني، وأعداد هائلة من الصور والرسوم التاريخية لطيور انقرضت من لبنان منذ آلاف السنين ومنها طيور الرخ، ومجموعة كبيرة من المسابح والخواتم والجرار الفخارية، والأواني الخاصة باستيعاب البارود والخردل وجعب الخرطوش والجراب، ومجموعة من الفضيات والنحاسيات والعاجيات وآلاف الطوابع البريدية التي تعود إلى الستينات، وعملات إسلامية وعثمانية ورومانية، ومطاحن بدائية لصنع القهوة، وجلود الحيوانات وقناديل الكاز، وفناجين مطلية بالذهب عمرها مئة عام، ومجموعة من خشب الأرز مطعمة بالفضة، والعديد من القطع التي تتربع على عروشها مطمئنة لتخليدها بعيداً عن غدر الأزمنة.
سؤالنا عن إمكان بيعه أي من القطع التي يحويها متحفه لم يكن موفقاً، مجرد سماعه كلمة بيع أجاب قائلاً "الأم تشير إلى تربية أبنائها بالقول كل شبر بند، قول ينطبق على كل قطعة من مجموعتي، وهل يببيع الأب أبناءه؟ زارني المئات من الأجانب المهتمين، وفشلوا في إقناعي ببيعهم قطعاً أعجبتهم. لا بل أن بعضهم عرض عليّ مبالغ كبيرة ورفضت، كثيرون من النواب والوزراء، جرّبوا من دون جدوى. وسأعمل على جمع المزيد من القطع ما حييت".
ولكي يكتمل عمله يرغب صاحب الدار بإقامة متحف عام لعرض هذه المقتنيات في بلدته بر الياس وليس خارجها كما يعرض البعض، مشيراً إلى استعداده لتقديم قطعة أرض لتشييد المتحف . وقد تلقى الكثير من العروض لنقل هذه القطع خارج لبنان وحفضها بمتحف، لكنه رفض مؤكداً أن منزله كان ولا يزال مفتوحاً أمام من يرغب بالزيارة ، ولكن اليوم ونظراً إلى الأوضاع السائدة بدأ يعيد النظر بهذه العروض.
إلى جانب هوايته هذه، يمتلك عراجي موهبة تضاهيها أهمية، وهي تدوين كل الأمثال القديمة والحكم، حيث جمع منها لغاية اليوم أربعين ألف حكمة، إضافة إلى القصص القديمة التي كان الحكواتي يقصها في ليالي السمر، والتي يعمل على توثيقها في ثلاثة مجلدات، إضافة إلى النكات والحزازير القديمة والتي تمتاز بالحشمة، وتجسد تراث شعبنا كما يقول ، ومعلومات عامة تحت عنوان " هل تعلم" يعمل صاحب المتحف على استكمالها ليكون إنجازه مزدوجاً.
صاحب المتحف فخور بما أنجزه على مدى عشرات الأعوام، أنفق خلالها الوقت والمال والجهد في سبيل جمع هذه القطع من لبنان وبلدان الجوار، ومما لا شك فيه أن كل لبناني فخور بسليم عراجي، ويرى أجداده تكرم دوماً في منزل عراجي.
يبقى أن تعي الدولة اللبنانية أهمية هذه الصروح الحضارية، وتسارع إلى المحافظة عليها وتبنيها، ومد يد العون لإصحابها، وتقديم ما يلزم من عناصر الصمود، وأن تعي أن مجرد الإعتراف بهذه الإماكن ووضعها على لائحة الآثار والمتاحف لا يكفي، ولا سيما أن في كلام عراجي الكثير من العتب على التعاطي الرسمي مع متحفه.
("لبنان 24")