لم يكن تصريح البطريرك بشارة بطرس الراعي في 23 اذار الماضي مطمئناً، وذلك بعد لقائه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي ناقش معه خطورة الوضع الاقتصادي في لبنان، إذ أعلن الراعي بأنّ "البلد مفلس وليتحمل الجميع مسؤولياته فبلدنا يتجه نحو الخطر".
وإذ أكدّ الراعي حينها على ان ما يقوم به العماد عون والحكومة والمؤسسات الدستورية يعزّز الثقة بلبنان، الا ان همّاً كبيراً وخطراً محدقاً يلوح في الأفق ويفرض النهوض بالوضع الاقتصادي في البلاد، الأمر الذي أطلق صافرة إنذار تحذّر من خطورة الانزلاق في هوّة مالية واقتصادية تهدّد امن الوطن واستقراره.
كرة الثلج تدحرجت في ذلك الحين بعد أن ثبُت ان كل المؤشرات تستدعي خطّة طارئة للاصلاح السياسي ومكافحة الفساد ووقف الهدر ومحاسبة كل من تسبّب في تدهور الحالة في لبنان ليصبح من الدول الاكثر مديونية في العالم! وعلى رغم محاولات الحكومة تجميل الواقع لامتصاص موجة القلق والخوف التي طالت الجميع، الا ان الحقيقة لا يمكن مجافاتها بالمطلق!
وقد كان بيان البطاركة الموارنة لاحقاً بمثابة صبّ الزيت على النار حيث ورد فيه انه "لا يحق للمسؤولين السياسيين التذرع بأن الخزينة فارغة وإن صحّ ذلك فإنها ادانة لهم قبل كل شيء". والسؤال هنا كيف لا تفرغ الخزينة والفساد مستشرٍ في دوائر الدولة الرسمية، والسرقة والرشاوى وفرض الخوّات والتهرّب من دفع الضرائب والمستحقات، اضافة الى التلزيم بالتراضي وجيوش الاستشاريين الذين يقبضون على اعناق الوزارات؟ والأخطر من هذا كله هو شخصنة المؤسسات بالطائفية والسياسة!
وفي المقابل، يظهر الفساد السياسي كي يزيد "الطين بلّة"، إذ ان التسابق للحصول على وزارات سيادية دسمة، يؤخر في تشكيل الحكومة ومزايدات الاطراف السياسية وتراشق الاتهامات حول معضلة الفساد هدفه تقسيم قالب الجبنة وفق الانتماء السياسي والحزبي والمذهبي!
الوطن اليوم على كفّ عفريت، والجميع قلق من إشهار افلاسه، واذا كان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يحاول تأجيل وقوع المصيبة عبر هندسات مالية تعزز وضع المصارف عبر تأمين دعم لخزينة الدولة بواسطة السندات التي تقدّمها المصارف بفوائد مرتفعة الا ان وضع المواطن الموظف والعامل والأجير يرزح تحت وطأة الفساد وعبء الغلاء والدَّين العام ليضرب الشلل في مفاصل وضعه المالي حتى ينهار!
هذه الصورة السوداء لم تعد تخفى على احد، لكنّ معظم القوى السياسية تراقب انهيار الوضع الاقتصادي وتتطلّع نحو تطبيق اقتراحاتها في شأن الاصلاح بما يتناسب حكماً مع مصالحها، الا انه في الوقت الضائع، يستفيد البعض من استمرار الهدر وسيطرة العجز، وتراجع النمو في الانتاج على مستوى القطاعات، اضف الى هذا كله ازمة النزوح دون اي خطة اقتصادية محددة، سيترك الباب مفتوحا على مصراعيه للسقوط في حفرة الإفلاس حين لن ينفع مؤتمر "سيدر 1" او سواه.
وبالعودة الى الارقام والاحصاءات فإن الدين العام لهذه السنة سيرتفع نحو حدود المئة مليار دولار بعد اضافة القروض الميسرة التي منحها مؤتمر "سيدر 1" للبنان والبالغة قيمتها حوالي 11 مليار دولار! ففي العام 2017 بلغ عجز الموازنة 4 مليار و200 مليون دولار وهناك احصاءات تشير الى ارتفاع العجز في العام 2018 الى اكثر من 6 مليار دولار.
ما لا شك فيه أن هذا التعثّر في الوضع الاقتصادي والمالي دفع المؤسسات المالية العالمية الى تصنيف لبنان ضمن الفئة السلبية للاستثمار والعمل والدليل على ذلك تخلّي العديد من المؤسسات الاجنبية عن سندات الخزينة "الأورو بوند" وبيعها في الاسواق وانخفاض قيمتها بنسبة 20% وهذا مؤشر فاضح على ان لبنان على حافة الإفلاس رغم محاولة مصرف لبنان شراء تلك السندات من السوق المالية تلافياً لانهيار قيمتها بالكامل.
من جهة اخرى، فإن قيام المصارف بتسليف مؤسسات القطاع الخاص مبلغ 60 مليار دولار بناء على طلب مصرف لبنان وسياسته المالية لم يؤدّي الى تحريك عجلة الاقتصاد نتيجة الجمود الاقتصادي، وهذه المؤسسات، لن يكون لديها القدرة على سداد القروض في حال استمرّ الوضع على ما هو عليه، وهذا الأمر سيدفع مصرف لبنان الى اعادة جدولة الديون دون ادنى حلول جذرية على المدى القصير.
يعيش المواطنون في لبنان أزمة اقتصادية متفاقمة، حيث لن يفيد تكرار المبدأ الاقتصادي نفسه، اي الحفاظ على سعر الصرف للدولار الاميركي بقيمة 1500 ل.ل في حين ان القدرة الشرائية تنهار شيئا فشيئا اذ لا يمكن فصل الوضع النقدي عن الوضع الاقتصادي وهذا يعني انعدام التنسيق والتوازن بين القطاع المالي والاقتصادي وتراكم الدين مما يؤدي الى زيادة في العجز!
وفي النظر الى الازمة المالية والاقتصادية، فإن هذا التفاقم يعود الى اسباب عدة يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- الحفاظ على سعر الصرف للدولار الاميركي، ما يفرض على مصرف لبنان تأمين احتياطي الزامي بالعملة الاجنبية للحفاظ على السعر المحدد
2- انعدام الخطة الاقتصادية الخمسية والتي تحمل رؤيا جدية بمعالجة الأزمة ولو تدريجيا.
3- الفساد والهدر واختلاس المال العام
4- انعدام فرص العمل للبنانيين ودخول العمال السوريين على خط سوق العمل برواتب منخفضة
5- انكفاء السياح الاجانب والعرب عن السفر الى لبنان والتوجه نحو تركيا وغيرها من الدول ما يحرم لبنان من دخل بالعملة الصعبة لا يستهان به
6- توقف دول الخليج عن دعم الوضع النقدي وتقديم المساعدات المالية لارتباط هذه المساعدات بالوضع السياسي في لبنان والوضع الاقليمي الذي يفرض نفسه.
7- ان حصول لبنان على مساعدات مالية للنازحين السوريين لا يفيد بشيء، اذ هو جزء من تكاليف الحكومة اللبنانية عليهم!
ختاما، وبغض النظر عن الغوص اعمق في تفاصيل المعضلة المالية والاقتصادية في لبنان، حيث مغارة علي بابا مشرّعة الأبواب وحيث لا يكاد يمرّ يوم دون فضيحة مالية وصفقات مشبوهة وغيرها، لا بدّ من التوقف عن المعالجة بالقطعة والاسراع الى وضع خطة اقتصادية شاملة وواضحة تؤدي الى تخفيض الدين العام تدريجيا وبالتالي خفض عجز الموازنة ورفع مستوى النمو وتأمين فرص العمل ووقف الهدر والفساد.
هذا الامر يقع على عاتق الحكومة الجديدة والتي قد تؤلّف قريبا، ويتحمل مسؤوليتها ايضا رئيس الجمهورية والمجلس النيابي والا ستصل البلاد الى ما لا تحمد عقباه والأمثلة كثيرة من حولنا، اذاً فإن اعلان حالة الطوارىء بات امرا واقعا، هنا لبنان وليس اليونان!!