لم يكن ينقص اللبناني وتحديداً ذوو الدخل المحدود وسط كل هذا التدهور في كل نواحي الحياة، وخاصة بعد استفحال أزمتي تلوث الشواطئ والهواء، من جهة، وغلاء سعر البنزين وكلفة الاشتراك في مولدات الكهرباء الخاصة، التي وصلت الى مبلغ الـ300 ألف ليرة شهريا في بعض المناطق، من جهة أخرى، إلا حرمانه من امتلاك شقة صغيرة على أي بقعة في بلده..
ولأن القرار الذي اتخذته المؤسسة العامة للإسكان بوَقف تلقّي طلبات جديدة حتى إشعار آخر، قد يكون الضربة القاضية، كان لا بد من النظر الى التداعيات السلبية للقرار وخلفياته، ليلقي الاقتصادي إيلي يشوعي الضوء على مسألتين:
-اقتصادياً، ممنوع على أي حكومة أن تدعم أي قطاع بشكل دائم ولمدة طويلة، لأن هذا الدعم المستمر يمنع التقدم الحقيقي والصحي عن القطاعات الأخرى ويضعف القدرة على المنافسة، لأن هذا الدعم يساعد على "الكسل"، أو بمعنى آخر، حين يكون الطلب أو القطاع مدعوماً، تصبح القدرة على الاستهلاك عالية، وحينها لا يهتم المنتج بالانتاجية والنوعية والكلفة، لأنه على يقين من أن الانتاج الموجود سيُباع في كل الأحوال.
-عالمياً، لا حكومات في العالم تدعم بشكل دائم أي قطاع لمدة طويلة إلا لسبب ظرفي، وعندها تقدم الحكومات دعما مؤقتا لِلَملمة عجز القطاع واعادة النشاط اليه.
في النتيجة، يؤكد يشوعي في حديث الى "لبنان 24" أن قرار دعم الفوائد على القروض السكنية لم يكن إيجابياً، وأن الحكومات مبدئياً هي من تتعاطى بموضوع دعم القطاعات بعد دراسة وضعه المالي، من ناحية تقديم حوافز مالية وما الى ذلك، أما أن نرى بنكاً مركزياً يتدخل في القطاعات الاقتصادية فهذه "مخالفة لمهمة البنوك المركزية"!
ويشير يشوعي الى أن "المهمتين الاساسيتين الرئيسيتين للبنك المركزي هما: أولاً: توفير سيولة كافية للاقتصاد بهدف الاستثمار والاستهلاك والنمو وخلق فرص عمل. ثانياً: السيطرة على التضخم والمساهمة في تكبير حجم الاقتصاد، فقط لا غير".
ويشدد يشوعي على أن "المعضلة الاساسية في لبنان لا تكمن فقط في الدعم او عدمه، بل في سياسة البنك المركزي القائمة على الفوائد غير الطبيعية منذ عام 1993 حتى يومنا هذا"، لافتاً ألى أن "الاقتصاد الناتج عن ذلك وُصف بـ"اقتصاد الريع"، الذي هو بعكس "اقتصاد الانتاج" وكل التعاليم الاقتصادية الاساسية (علماً أن وزير الدولة لشؤون مكافحة الفساد في حكومة تصريف الأعمال نقولا تويني اشار منذ يومين فقط الى "اننا في معرض تقدم لبنان نحو الاقتصاد الإنتاجي بدل الاقتصاد الريعي").
وبالارقام، يكشف يشوعي أنه "يتواجد ودائع في البنوك بقيمة 175 مليار دولار، وهي من النسب الاعلى في العالم، لكن مع الأسف فإن الشركات الخاصة بكل فروعها لم تستفد الا بـ52 مليار دولار من القروض، أي ثلث المورد المالي، وهذا ينافي السياسة النقدية، التي من ابرز بنودها أن"المورد المالي يأتي من الناس ويجب ان يعود الى الناس".
إذا، أين تذهب باقي الأموال؟ "إن القطاع العام يستفيد من الباقي (بأكثر من 100 مليار دولار) ما يعني ان هناك منافسة حادة جدا بين الدولة والقطاع الخاص.. كالام التي تأكل من صحن طفلها!"، يقول ياشوعي.
إذاً، غالبية الاموال المتبقية تُهدر وتحاصر، وإن "تكرّم" احد المسؤولين وقرر إنفاق جزء منها على مشروع معين، فيتم الامر بطريقة غير سليمة، فمثلاً إذا كّلف المشروع مليون دولار فينفق عليه المسؤول 300 ألف دولار وتتبخر الـ700 مليون دولار، وبالتالي يخرج المشروع الى النور لكن بنوعية رديئة.
اما عن السيناريوهات المتوقعة، فيجد الاقتصادي أن "البلد بحاجة الى نفضة لكن لا أحد يسعى اليها، وأن اهتمامات المسؤولين تصب جميعها على الحصص الوزارية"، مشيرا الى أن 400 مصنع أقفل حتى الآن وعشرات الشركات أفلست، هذا عدا عن أن أغلب الشركات العقارية متعثرة"، مضيفاً: "البنوك تحولت الى شركات عقارية و "La Samaritaine" (متجر شامل في باريس حيث باستطاعتك ان تتبضع وتجد ما لا تجده في أي مكان في العالم)".
أما الحل فيكمن بالنسبة ليشوعي بـ"دعوة القطاع الخاص لاشراكه في الخدمات العامة، فهذه الشركات هي وسيلة لتحسين الأداء، عبر عملها لحساب الدولة وتحت أعين الدولة"، مشيراً ألى أن "حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قطع الحبل على المواطنين، هو جعلهم يعتادون على الدعم ثم قرر توقيفه بشكل مفاجئ".
لا السياسية النقدية صحيحة ولا المالية ولا الاستثمارية ولا التجارية ولا الانتاجية ولا خطط للبنى التحتية ولا الكهرباء ولا الخدمات ولا المياه.. على ما يبدو، لبنان لن ينهض، لا بوادر ولا من يحزنون...! هكذا يختم يشوعي كلامه عن الوضع الاقتصادي.
إن الحاكم الياباني ينحني أرضاً للاعتذار من شعبه في حال حدث عطل مفاجئ وانقطعت الكهرباء لدقيقة واحدة فقط، أما إذا حصل خطأ طبي في أي بلد في العالم فيعلن الوزير المسؤول استقالته فورا.. أما في لبنان فـ"كل واحد يقبع شوكته بيده"!