لم يجد محافظ بيروت زياد شبيب وسيلة للحؤول دون حصول مواجهات عنفية بين اللبنانيين إلا إصدار قرار يمنع من خلاله رفع أعلام الدول المشاركة في كأس العالم، متذرعاً بشكل أساس بقانون نافذ يجرّم رفع علم إلا العلم اللبناني. ومع أنّ خطوة المحافظ قوبلت بتهكم وسخرية وانتقاد من قبل أغلبية المواطنين، إلا أنّ الحقيقة التي لم يُقدم أحد على مناقشة أسبابها وحيثياتها تبقى واضحة وجليّة: ثمة ظواهر عنفية تترافق مع المباريات، يرتكبها أفرادٌ ومجموعات على حدّ سواء!
قد يكون ما يُعرف بالعامية بـ "التزريك" عنصراً طبيعياً يحلّ مع المسابقات والمباريات الرياضية، فيحصل تراشق كلاميّ بين مشجعي الفرق المختلفة أو حتى بين الزوجين وأفراد العائلة الواحدة. ويحصل أن تجتاح "حمّى" المونديال وسائل التواصل الاجتماعي فتُعلّق على الجدران الافتراضية أوراق نعي منتخب معيّن، ويبتدع المستخدمون النكات والتعليقات ويبتكرون فيديوهات هدفها النيل من الخصم وتمجيد "البطل". وهنا في لبنان، شوهدت منذ أيام، جنازة حقيقية في أحد الشوارع حيث حمل شبان نعشاً لُفّ بعلم بلد منتخب شهير، وراحوا يرقصون به محملاً على الأكتاف!
لكنّ التمريك والتزريك قد يتخطيان الحدود فيحلّ العنف أو السلوك اللامنطقي وغير المبرر، فتقع المشاكل التي تُستخدم فيها القوة، أو يتمّ تحطيم الأملاك العامة والملاعب وضرب اللاعبين أو المشجعين الآخرين (وهذا ما نشهده مراراً وتكراراً في لبنان مع كل مباراة رياضية)، وقد تصل الأمور إلى حدّ ارتكاب جريمة القتل بحق أشخاص آخرين.
لماذا يحدث هذا السلوك العنفيّ؟ سؤال يبدو ملحاً اليوم في ظلّ "المونديال" وانقسام اللبنانيين انقساماً حادّاً لناحية تشجيع منتخبات مختلفة! ولأن لعلم النفس دائماً الكلمة العلمية الأقوى والأكثر إقناعاً، ولكون الرياضة مرتبطة بعلم النفس في كثير من الزوايا والمجالات إذ ثمة ما يُعرف مثلاً بعلم النفس الرياضي الذي يهدف إلى تحسين أداء الرياضيين، نسأل الطبيب والمعالج النفسي د. مرام الحكيم الإجابة على السؤال. فما هو السبب يا ترى؟!
بداية، يلفت الحكيم إلى الواقع التاريخي في هذا الموضوع، فيقول: "منذ القدم، كان الرومان يفتحون حلبات المصارعة والقتال ويضعون فيها أسرى الحرب و"العبيد" كي يقتلوا بعضهم أمام الجماهير التي تُدعى لحضور هذا "النشاط المسلّي". لقد عرف هؤلاء أنه بإمكانهم امتصاص غضب الرأي العام وإلهائه عن المشاكل المعيشية وسواها من خلال تلك المصارعات العنفية إذ اتضح أنّ الجماهير قادرة على تنفيس الغضب الدفين في داخلها أمام الحلبات!".
لقد أدرك الحكام منذ القدم أنّ الرياضة ليست وسيلة للترفيه والتسلية وتنمية القدرات وكسب الأموال وحسب، بل إنها أيضاً وسيلة لتفريغ الغضب، وحتى لو لم تكن عنفية (بخلاف مصارعة الثيران وقتال "الجلادياتورز" مثلاً) فإنها أيضاً تؤدي غرض تنمية روح التضامن والهوية والعظمة، فالموضوع إذا إيجابي وسلبي معاً.
ويلفت الحكيم إلى أنّ الفرد عندما يقرر تشجيع فريق رياضيّ معيّن فإنه يختار بطبيعة الحال الأقوى بنظره ويبدأ بالتماهي معه فيما "يُشيطن" الفريق المنافس الآخر. هكذا تفعل المجموعات أيضاً، وهذا ما يدرسه علم النفس الجماهيري. يقول الحكيم إنّ " مثل هذه الأمور تحصل في عالم الرياضة تماماً كما تحصل في عالم الحروب إذ يتمّ توجيه الشعوب كي تتقبل الحرب وتحقد على العدو. الفارق أنه في عالم الرياضة لا يكون الفرد أو المجتمع بحاجة إلى من يوّجهه، بل تحصل هذه العملية بشكل تلقائي لأن الغضب الدفين والمتراكم في النفوس عادة ما لا يتمّ تصريفه، لا سيّما في المجتمعات المكبوتة، وليس المباريات الرياضية إلا مناسبة مثالية لتنفيس مكنونات المشاعر الدفينة بشكل لا يُلام عليه الفرد أو المجتمع إجمالاً إذ يعتبر الغضب و"فشّ الخلق" والتزريك وما إلى هنالك، أفعالاً عاديّة ومبررة ومفهومة خلال "الماتش"!
الأكيد أن عملية تصريف الغضب عبر قنوات المباريات الرياضية لا يحصل بشكل مخطط له مسبقاً، إنما باللاوعي. هكذا، بشكل عفويّ، يميل الإنسان إلى تكرار عملية الـ projection، فيحوّر الغضب من هدفه الأساسي إلى هدف آخر. ويعقب الحكيم:" الغضب أو الغضب المتراكم يكون سببه الأساسي مثلاً زحمة السير الخانقة، خلافات عائلية، ضائقة اقتصادية، ضغوطات في العمل…ولذلك نقول إن نتائج تفريغ هذه المشاعر ليست طويلة الأمد بل آنية وموقتة لأن المسبب الرئيسي للغضب ما زال هو نفسه، والشخص لم يفجّر ما بداخله ناحيته".
وردا على سؤال عما إذا كان الأفراد الذين يتوسلون العنف بحاجة إلى علاج نفسي؟ يجيب الحكيم:"الشخص الذي قد تصل به الأمور إلى إلحاق الأذى بالآخرين أو ارتكاب جرم بسبب مباراة فوتبول، هو شخص يختزن كمية هائلة من الغضب الداخلي المكبوت، وقد يُسقطه لاحقاً في أماكن أخرى، لذلك لا بدّ له من أن يتخلّص من تلك المشاعر السلبية بطريقة علمية بمساعدة اختصاصيين".
بطبيعة الحال لا يتصرّف الجميع بعدائية وعنف، ويعود سبب هذا الاختلاف بين سلوك الأشخاص إلى طبيعة الفرد وتركيبة شخصيته، فالبعض قادرٌ على تفريغ غضبه فوراً وبالهدف الرئيس، فيما يميل آخرون إلى كبت المشاعر وتراكمها بالتالي.
من هنا، نستطيع أن نلحظ أن سلوك الجمهور اللبناني، وبخاصة أثناء المباريات المحلية، ليس دائماً خال من العنف والعدائية. يقول الحكيّم: "الشعب اللبناني يعاني من أزمات وضائقات وضغوطات يومية، أضف إليها رواسب الحرب، والطائفية طبعاً. ثمّ أنّ الشعب اللبناني يحبّ تقليد الآخرين، أي شعوب الدول الأخرى، فيبدأ بإحداث شغب في "الستاديوم"، مع أنّ تلك الدول المتقدمة فرضت القانون وضربت بيد من حديد ما أدّى إلى انحسار ظواهر العنف في الملاعب".
ومن المعروف أن مشجعي الفريق الواحد يخلقون لهم سريعاً هوية مشتركة (نلاحظ أن زيّ المنتخب الرياضي الموّحد يهدف إلى خلق هوية جامعة)، ويتماهون مع "أبطالهم" الرياضيين ويتكلّون عليهم وينتظرون منهم الربح لأنه سيكون ربحاً شخصياًـ فيما ستكون الخسارة ضربة للمبادئ المشتركة وللهوية الجامعة.
ويشير د. الحكيم هنا إلى "عملية استبدال تحصل أيضاً وفق مفهوم علم النفس: إن الفرد يضع 11 لاعباً مكانه شخصياً لتحقيق النجاح والبطولة".
وردا على سؤال عن السبب الذي يدفع بشخص ما إلى أن يصبح مهووساً بالرياضة حدّ أن تصل به الأمور إلى برمجة حياته وفق جداول المباريات الرياضية، يشرح الحكيم ان "هؤلاء الأشخاص هم، بشكل عام، يحتاجون إلى بطل أو هدف في حياتهم نتيجة نقص ما يعايشونه، وهذا نراه أيضاً عندما يعيش الفرد المجد والنجاح من خلال نجم موسيقي أو مطلق أي شخص ناجح في نطاق عمله".
وعن سبب تشجيع الفرد لمنتخب بلاد يحمل هو جنسيتها أو ربما عاش فيها مدة معينة بشكل تلقائي، يجيب الحكيم:"هذا إثبات للهوية وشعور بالانتماء إلى هذا البلد. يمكن أن يُفسّر الأمر كنوع من المغالاة والتباهي بأنه سافر إلى الخارج".