عادت اتصالات تأليف الحكومة إلى مربع الانقسام الشهير بين الفرقاء السياسيين. اهتزت علاقة الرئاسة الأولى والثالثة لأوّل مرّة منذ أكثر من عام ونصف. خرج تيار "المستقبل" عن صمته أمس مسانداً إلى حد واضح وصريح "القوات اللبنانية" ومتبنياً مطالبها، ومذكراً بالأعراف المعتمدة منذ اتفاق الطائف لجهة أنّ مهمة تأليف الحكومة من المسؤوليات الدستورية المُناطة حصراً بالرئيس المكلّف، بالتعاون والتنسيق الكاملين مع رئيس الجمهورية. في حين أن الرئيس ميشال عون ليس في وارد التغاضي عمّا منحه إيّاه الدستور من صلاحيات وما درجت عليه الأعراف المعتمدة منذ اتفاق الطائف.
لقد تبدل الوضعَ بعد اتفاق الطائف والتعديلات الدستورية المنبثقة منه، إذ إنَّ تسمية الرئيس المكلّف تأليف الحكومة من جانب رئيس الجمهوريَّة باتت تتمّ بناءً على إستشارات نيابيَّة ملزمة يجريها، ويُطلع رئيس مجلس النواب على حصيلتها وبالتشاور معه (الفقرة 2 من المادّة 53 من الدستور)، كما أنَّ الإستشارات النيابيَّة غير الملزمة من أجل التأليف أصبح يجريها الرئيسُ المكلّف تأليف الحكومة (الفقرة 2 من المادّة 64 من الدستور)، إلّا أنّ مرسوم تأليف الحكومة يصدر بالاتّفاق بين رئيس الجمهوريَّة والرئيس المكلّف، ما يعني أنَّ التشكيلة الحكوميَّة لا تولَد إلّا بالاتفاق بين رئيس الجمهوريّة والرئيس المكلّف، الأمر الذي يقود إلى القول إنّ رئيس الجمهوريّة شريك أساسي في تأليف الوزارة وكلُّ قول مغاير ليس في محلّه الدستوري، يقول الخبير الدستوري والقانوني عادل يمين لـ"لبنان24".
وعليه، فإن النظام الدستوريّ اللبناني، برلماني، ولكنه أيضاً ميثاقي وتوافقي وذو سمات رئاسية، ولا يزال يملكُ فيه رئيسُ الجمهورية صلاحيّات جادّة لا يملكها نظراؤه في الأنظمة البرلمانيّة التقليدية، وبينها صلاحيَّة الشراكة الكاملة في عمليَّة تأليف الحكومة، بحسبه.
وبانتظار زيارة الحريري إلى بعبدا غداً لمتابعة التشاور بمستجدات تأليف الحكومة، فإنّ الأمور لا تبشر بخير ولادة الحكومة على الإطلاق.
فاين تكمنُ العقبات التي تعيق التأليف؟
ان العقبات التي تعترض تأليف الحكومة تتمثل في انتفاء معيار واحد وواضح في توزيع الحصص الوزارية بين الكتل النيابيَّة وفي تجاوز تقاليد وأعراف متبعة منذ اتّفاق الطائف في ما يُطرح من أفكار وصيغ راهناً.
فمن الناحية الدستورية، إن عمليَّة تأليف الحكومة مرهونة باتفاق رئيس الجمهورية والرئيس المكلَّف على التشكيلةِ بشرط أن تكون قد راعت عاملين، الأول أن يكون رئيسا الجمهورية والحكومة قد تحققا من خلال الاستشارات النيابية الَّتي يجريها الرئيس المكلَّف والإتصالات التي قام بها رئيس البلاد، أنَّ الحكومةَ تحوز تأييداً نيابيّاً يؤهلها لنيل ثقة البرلمان عندما ستمثل أمامه حاملةً بيانها الوزاري، والثاني أن تنطوي تركيبة الحكومة على تمثيل عادل للطوائف تفعيلاً لموجبات الفقرة "أ" من المادَّة 95 من الدستور، ولا ريب في أن عدالة التمثيل بين الطوائف في تكوين الوزارة لا يقتصر على أعداد الوزراء بل على صفاتهم التمثيلية، مع حفظ حضور رئيس الجمهوريَّة في التشكيلة وإمكانية حصول مبادلات بين القوى السياسيَّة، يؤكد يمين.
وعليه فإنه مع مراعاة العاملين الدستوريين المذكورين، يكون أمام رئيس الجمهورية والرئيس المكلف الإجتهادُ في بلورة التشكيلة الحكومية، ونكون قد انتقلنا من المساحة الدستورية إلى المساحة السياسية. ففي الساحة السياسية، التباين بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلَّف، يكمن، بحسب يمين، في حرصِ رئيسِ الجمهورية على اعتماد معيار واحد في تمثيل الكتل النيابية في الحكومة العتيدة، ولا سيما أن المجلس النيابي نتج عن انتخابات حديثة أُجريت للمرة الأولى في تاريخ لبنان وفقاً لنظام الاقتراع النسبيّ، بحيث أنَّ الأحجام النيابية تعكس إلى حد بعيد الأحجام الشعبية، ولا سيما داخل البيئة ذاتها.
يوجب المعيار الواحد تمثيل الكتل النيايبَّة في الحكومة بالنسبة والتناسب مع مراعاة الكوتا الطائفية والمذهبيَّة، الأمر الَّذي يَعني أنَّ تخصيص كل أربعة نواب، مثلاً، بوزير واحد، يجب أن ينسحب على جميع الكتل، بحيث لا تجوز معاملة كتلة نيابية على أساس تخصيصها بوزير لكلّ ثلاثة نواب وأخرى على أساس تخصيصها بوزير لكلّ أربعة نواب، لأن في ذلك افتئاتاً على حجمها التمثيلي ومَسّاً بالإرادة الشعبية التي أفرزتها الانتخابات النيابيَّة.
أما في ما خص منصب نائب رئيس الحكومة، فإن هذا المنصب لم يُذكر في الدستور ولكن جميع الحكومات التي تشكَّلت منذ ما قبل الاستقلال، اشتملت على إناطة نيابة رئاسة الحكومة بأحد أعضاء الحكومة من طائفة الروم الأرثوذكس، ما يعني أنّ هذا المنصبَ، كما يرى يمين، محكوم بالعرف الدستوريّ، وقد درجت الممارسة المتَّبَعة منذ اتفاق الطائف على ترك أمر اختيار نائب رئيس الحكومة برئيس الجمهورية، وهذا ما حصل في عهود الرؤساء الياس الهراوي واميل لحود وميشال سليمان، فضلاً عن أن اختيار نائب رئيس الحكومة الحالي غسان حاصباني المنتمي إلى كتلة القوات اللبنانية حصل بناء على مبادرة ورغبة من الرئيس عون.
يبقى أن رئيس الجمهورية شريك أساسي في عملية تأليف الحكومة ولا يمكن يحسب يمين، ولادة أي حكومة، مهما طال الوقت، من دون موافقته عليها وقناعته بها ورضاه على تركيبتها وعلى جميع أسمائها.