يوم طرح الوزير ملحم الرياشي، وكان يشغل رئاسة جهاز الإعلام والتواصل في "القوات اللبنانية"، فكرة إنهاء حال الصراع القائم بين "القوات" و"التيار الوطني الحر" لم يكن أحد يتصّور أن هذا الأمر ممكن، وذلك نظرًا إلى ما كان بين الفريقين المسيحيين من خصومة إلى حدّ العداء. إلاّ أن هذه الفكرة، وعلى رغم أن البعض رأى فيها إستحالة بإعتبار أن ما بين هذين الفريقين من تنافر ليس وليدة الأمس، بل عمره سنوات من المشاحنات والمماحكات، لاقت إستحسانًا لدى قيادة "القوات"، التي قررت أن تعطي لهذه الفكرة فرصة علّها تنجح، فأتى الضوء الأخضر من "الحكيم" مبديًا كل الإستعداد لإنجاح هذه الخطوة، وذلك نظرًا إلى أهميتها القصوى على صعيد توحيد الصف داخل المجتمع المسيحي وإنهاء حال العداء وطي صفحة الماضي، وما فيها من مآسٍ وأحزان.
عرض الرياشي الفكرة على صديقه النائب ابراهيم كنعان، الذي راقى له الطرح، وأستمهل لأخذ موافقة الرابية، التي رأت في هذه الخطوة ما يستأهل السير بها، على رغم صعوبتها، فأعطت موافقتها غير المشروطة مسبقًا، وبدأت مسيرة الألف ميل، التي استلزمت عقد لقاءات مكثفة وطويلة بين عرابي ما بات يُعرف لاحقًا بـ"اوعى خيّك".
وبعد هذه اللقاءات الطويلة تمّ التوصل إلى عدة صيغ أولية كان يطلع عليها كل من العماد ميشال عون بصفته رئيسًا لـ"التيار الوطني الحر" والدكتور سمير جعجع بصفته رئيسًا لحزب "القوات"، وكانا يضعان عليها ملاحظاتهما، حتى أن بعض الأفكار كانت تستلزم لقاءت عدة لبلورتها وإعادة صياغتها، حتى أن الفاصلة كانت تأخذ الوقت الكافي لكي تكون في موقعها الطبيعي.
وبعد أشهر من المباحثات، اعلن كل من "القوات" و"التيار" عقب زيارة مفاجئة قام بها جعجع للرابية ولقائه عون ورقة الاعلان المشترك التي تلاها النائب كنعان والرياشي، ,تضمنّت ستة عشر بندًا ومقدمة وخاتمة "من أجل تنقية الذاكرة من مناخات الخصومة السياسية التي طبعت تلك العلاقة، والتطلع بالتالي نحو مستقبل يسوده التنافس السياسي الشريف و/أو التعاون السياسي"، ليخلصا إلى أن إعلان النوايا "يهدف إلى وضع المبادىء الديمقراطية ومعاييرها كأساس لتنظيم علاقتهما، ويؤكدان على ابقاء المبادئ الدستورية والميثاقية فوق سقف التنافس السياسي، كما يؤكدان على ارادتهما ورغبتهما بالعمل المشترك والتواصل في جميع المجالات والمواقع الممكنة لتنفيذ التزاماتهما المنوه عنها اعلاه ويعتزمان العمل على تفعيل انتاجية اتفاقاتهما حيث يتفقان، والتنافس من دون خصام حيث يختلفان، كما يتعهدان بالتواصل الدائم والتباحث المستمر للتفاهم على كافة المواضيع ذات الشأن العام والوطني."
وبعد هذا كله جاء إتفاق معراب، كجزء مكّمل لإعلان النوايا، بعد قرار "القوات" دعم ترشيح العماد عون لرئاسة الجمهورية، وتضمن تفاصيل لم ترد في ورقة إعلان النيات، ولكنها جاءت من ضمن روحية تكامل الأدوار، من دون أن يعني الإختلاف في وجهات النظر خلافًا على الأساسيات.
وعلى رغم كل ما ورد في الورقة والإتفاق وصل الطرفان إلى نقطة الخلاف، وهذا ما عكسته تصريحات ومواقف كل من الوزير جبران باسيل والدكتور جعجع، وكل من يدور في فلكهما السياسي، إلى درجة أن شعار "أوعى خيّك" بدأ يتحوّل إلى شعار "أوعى البلد"، وذلك نظرًا إلى أن هذا الخلاف أعاد عقارب تأليف الحكومة إلى ما قبل تكليف الرئيس سعد الحريري.
وعلى رغم صعوبة الوضع، فإن المراهنين على وعي القيادات المسيحية لا يزالون يأملون في التوصل إلى ما يبدّد أجواء التشنج، وقد تكون دعوة البطريرك الراعي للرياشي وكنعان إلى لقاء في الديمان بعد غد الخميس، مقدمة لإعادة صياغة جديدة لتفاهمات عامة تكرّس واقع الإختلاف بين المكونين المسيحيين وتزيل اسباب الخلاف، ومن بينها حصول كل فريق على حصته الوزارية وفق ما تقتضيه المصلحة العامة.