إن سألت ولداً صغيراً في لبنان عن البحر، فسيقول فوراً: "إنه ملوّث"! اللبنانيون جميعاً يعرفون ذلك. هم شهود، منذ سنوات طوال، على عمليات تلويثه "الممنهجة" والمتنوّعة المصادر. إنهم يشاهدون بأمّ العين كيف تطفو أكياس الزبالة على المياه، وكيف تعوم الأبقار النافقة، وكيف يصبح لون البحر بنيّاً قاتماً، وكيف تُستحدث أرض جديدة في هذا البلد جرّاء ردم البحر بأطنان النفايات…
لكنهم ما انفكّوا يهربون إلى الشواطئ للترفيه وممارسة السباحة. ما باليد حيلة أخرى في بلد الفوضى والفساد والإهمال. حتى الأمس القريب، كان سكان لبنان يتوّجهون إلى البحر بخطى ثابتة من دون أن يردعهم خوف أو منطق أو علم أو قلق! فجأة، استفاقوا على نشر نتائج تحاليل على عينات أخذتها مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية من عدة مناطق لبنانية بيّنت أن مياه لبنان بمعظمها ملوثة جرثومياً وكيميائياً وبالمعادن الثقيلة، وبالتالي لا شاطئ صالحاً للسباحة! سرعان ما بدأت وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية تضجّ بأخبار متنّوعة حول إصابة أطفال وراشدين بأمراض مختلفة جرّاء ارتياد الشاطئ. حلّت موجة من الشائعات. بدا الأفق قاتماً. "هزّة" ضربت المواطنين وطرحتهم أسرى الخوف والقلق والحيرة. كثرت الأسئلة وازدحمت في حضن تموز الملتهب:
هل بحر لبنان ملوّث أم لا؟! ما هي تلك الملوّثات، وهل هي سامة، مرضية، قاتلة، وكيف تفتك بالثروة البحرية، ومن أين تأتي؟ هل علينا تجنب ارتياد الشاطئ؟ هل بتنا أجساداً سوف "تغزوها" الجراثيم والأمراض حكماً بمجرد السباحة في البحر، وما هي تلك الأمراض؟ هل أسماك بحرنا ملوّثة، وماذا يحلّ بنا إن تناولناها؟ من وماذا نصدق؟ كيف نتصرف؟
في الدراسات الصادرة عن مصلحة الأبحاث الزراعية، بدا لافتاً عدم تحديد نسب التلوّث المختلفة إذ تمّ الاكتفاء بذكر نوع التلوّث وماهيّته، مثلاً: "نسبة عالية من الزرنيخ والرصاص والنحاس والزنك والكادميوم والزئبق". أمرٌ اعتبره كثيرون "غير علميّ" ولا يمكن الاستناد إليه. وحتى الساعة، لم يقم أي أحد من المعنيين في مصلحة الأبحاث الزراعية ولا من المسؤولين والمعنيين الرسميين في الدولة بتوضيح الأمور وكشف الحقائق العلمية أياً تكن.
لماذا هذا التأني؟
وفيما يحدث كلّ ذلك، كان المجلس الوطني للبحوث العلمية الذي يتبع له المجلس الوطني للعلوم البحرية يتأنى في الكشف عن أحدث نتائج التحاليل على المياه، وهو قد اعتاد سنوياً على نشر ما يشبه "خارطة" للشاطئ اللبناني بأكمله تظهر نسب التلوّث في أكثر من 25 نقطة رصد.
ومن المعروف أنّ المجلس الوطني للعلوم البحرية يعمل على إجراء الفحوصات بشكل متواصل ومنتظم ويتابع التطورات الحاصلة في البحر، ولا يُستند الى فحص واحد أو نتائج فحوص أجريت في خلال سنة واحدة لتقييم البحر ومدى نظافته او تلوّثه، بل الى مسار تراكمي عل مرّ السنوات، ذلك أنه، علمياً، تتغيّر كميات الملوثات تبعاً لعوامل عديدة منها طبيعة المنطقة، حركة التيار والأمواج، توقيت سحب العيّنات، بُعد المكان الذي تؤخذ منه العينة عن مصدر التلوّث...
وبحسب معلومات خاصة لـ "لبنان24"، فسوف يعقد المعنيون في المجلس الوطني للبحوث العلمية مؤتمرا صحافيا مطلع الأسبوع المقبل للكشف عن آخر نتائج الفحوصات أمام الرأي العام، بحيث يتمّ تحديد أماكن التلوّث وحجمه وماهيّته.
إذاً بحر لبنان ملوّث نعم...ولكن!
لعلّه من أكثر "الأخطاء الشائعة" التي نتداولها لدى الحديث عن التلوّث في البحر هو الاكتفاء بالقول إن "بحر لبنان ملوّث"! من الناحية العلمية، العبارة غير صحيحة إذ يجب تحديد نوع التلوّث وحجمه.
في هذا السياق، يشرح الخبير البيئي ولسن رزق في حديث لـ "لبنان24" أنّ هناك أكثر من نوع من التلوّث البحري يمكن تمييزه، يذكر منها التلوّث البيولوجي ومصدره النفايات العضوية ومياه الصرف الصحيّ، والتلوّث الكيميائي ومن مصادره المعامل والنفايات الصلبة أيضاً (التي تحتوي على معادن وكيميائيات مثلاً في البطاريات المنزلية وأدوات الدهان ...)
ويلفت رزق إلى أنّ معظم المعامل والمصانع في لبنان تدعي، للأسف، وجود محطات تكرير خاصة بكلّ منها، لكن هذا الأمر غير دقيق ولا واقعي، "علماً أنّ الملوّثات الناجمة من هذه المعامل تختلف بحسب طبيعة المصنع (هناك مصانع تنتج الزيوت، وأخرى الحديد، وأخرى البطاريات...).
وقد نجد في منطقة بحرية معينة نوعاً واحداً من التلوّث أو أكثر من نوع، وبنسب مختلفة.
ماذا عن مخاطر تلك الملوّثات على الإنسان؟!
يشرح الاختصاصي في الأمراض الجرثومية والمعدية الدكتور جاك مخباط أنّ تلوّث البحر يمكن أن يصيب الأفراد بأمراض مختلفة، وقد تنتج هذه الأمراض إما بمجرد الاحتكاك بالمياه أو بسبب ابتلاع كمية من المياه أو تناول أسماك ملوّثة.
ويؤكد د. مخباط في حديث لـ "لبنان24" أنّ بحر لبنان يضربه التلوّث بمختلف أنواعه وهذا ما أظهرته دراسات قام بها في العام 2000، لكنه يشير إلى ضرورة تحديد حجم التلوّث في مطلق أي دراسة لأن الخطورة المتأتية من الملوّثات على البشر تتباين بحسب نسبة التلوّث، فثمة نسب تعتبر محمولة فيما يحظر مثلاً الاقتراب من المياه عندما تتعدّى نسبة التلوّث الخطوط الحمراء المعترف بها عالمياً!
ويشرح د. مخباط أنّ الإنسان "لا يتأذى مباشرة (أي فور السباحة في البحر) من التلوّث إلا عندما يكون التلوّث بيولوجياً أي جرثومياً، وقد يصاب بحمى في الأمعاء، يرقان فيروسي، شلل الأطفال (لكنّ الأطفال اليوم يتلقون اللقاحات ضدّ هذا المرض)، تيفوئيد، التهاب الكبد الفيروسي...بالإضافة إلى أمراض جلدية مختلفة مثل الفطريات والالتهابات…
وفي هذا السياق، يُذكّر د. مخباط بأن أزمة النفايات الأخيرة "ليست الوحيدة المسؤولة عن التلوّث الجرثومي والبيولوجي مع أنّ المطامر العشوائية، القديمة والجديدة، زادت حتماً من حجم التلوّث، بل إن لبنان يعاني منذ سنوات بعيدة من أزمة سوء إدارة مياه الصرف الصحي بحيث لم يعد هناك من بئر أو نبع أو مياه جوفية أو مبتذلة إلا وبيّنت الفحوصات التي تُجرى عليها تلوّثها جرثومياً بنسب مرتفعة جداً"!
أما بالنسبة إلى التلوّث الكيميائي، فرغم أنه أكثر خطورة وأذية، إلا أنّ الإنسان لا يتأثر به فوراً أي بمجرد ارتياد الشاطئ مرة أو بضعة مرّات. يشرح د. مخباط: "إن التسمم بالمواد الكيميائية المتأتية خصوصاً من المواد النفطية يؤدي إلى الإصابة بالسرطانات، لكنه يحتاج إلى أن يستهلكه أو يلامسه الفرد أكثر من مرّة ولفترة زمنية."
لكنّ التسمم بالتلوّث الكيميائي يحدث أسرع من التسمم بالمعادن الثقيلة الذي يحتاج إلى وقت أطول. يشرح د. مخباط:"خطورة المعادن الثقيلة على الإنسان تبدأ عندما تتسرّب إلى طعامه ومياهه، لكن يتطلب الأمر استهلاكاً مطولاً وبكميات لهذه المعادن ليصاب الفرد بأمراض مختلفة وفقاً للمعدن. مثلاً، يؤدي تراكم الزئبق في جسم الإنسان إلى الإصابة بالقصور الكلوي، ويُلحق الزرنيخ ضرراً كبيراً بالدم".
المشكلة الأكبر والتي نادراً أو بالكاد يلتفت إليها أحد في لبنان هي تلوّث المياه والبحر بالإشعاعات! يقول د. مخباط:" ذات سنة كان لبنان مقبرة لنفايات مشعّة مصدرها دول في الخارج وعلى رأسها إيطاليا والتي قد تكون تسربت الى مياهنا الجوفية ومنها إلى البحر! لقد استأذنا مرة في الماضي إجراء فحوصات على المياه لمعرفة ما إذا كان هناك من تلوّث شعاعي، سيّما وأنّ بعض المواد الإشعاعية مثل البلوتونيوم "يعيش" لـ 200 سنة، إلا أنه لم يُسمح لنا بإجراء تلك التحاليل".
ويذكّر د. مخباط بأن الكيان الإسرائيلي المعتدي رمى في خلال حرب تموز مواد مشعّة أيضاً، "فهل ثمة من أخبرنا ما إذا كانت مياهنا ما زالت آمنة؟"!
في المحصلة إذاً، أنّ ثمة أنواعاً مختلفة من التلوّث في بحر لبنان، وبانتظار أن تتكشف الحقائق العلمية والدقيقة والمؤشرات والنسب الواضحة، نأمل ألا ينزلق هذا الملف أكثر فأكثر في التجاذبات والزواريب والحسابات السياسية أو الخاصة، ذلك أن ثمة رائحة غير مُطمئنة تفوح بدليل الفوضى والتضارب في المعلومات والتستر أو صمت القبور الذي يلتزم به بعض المعنيين.
أما الهدف الأساسي، الأول والأخير، فيبقى في إعلان حال طوارئ لوضع خطة مستدامة تهدف إلى وقف التلوّث الحاصل والعمل على التخفيف منه قدر المستطاع، علّ لبنان يعود يوماً ما "سويسرا الشرق"، فهو لم يعد أبداً كذلك، وهذه حقيقة ستُحزن حتماً وزير السياحة الذي ما انفكّ يبدي انزعاجه ممن يعتبرهم يهوّلون لضرب موسم السياحة والعزّ!