وشهد شاهدٌ من أهله، "كبّروا عقلكم" عبارة صرّح بها الرئيس المكلّف سعد الحريري من أمام قصر"عين التينة" بعد لقاء استمرّ حوالي الساعتين مع الرئيس نبيه بري، جملة وإن بدت ساخرة، الا انها اختصرت حتما بنظر الحريري حقيقة الواقع. اذاً فإن السياسيين على اختلاف اطيافهم "مزغرين عقلهم"وفي تصريح الحريري دعوة جدية الى ضرورة التعاون لتسهيل عملية التشكيل وبالتالي ولادة حكومة الأربع سنوات العتيدة.
وتبع لقاء الرئاستين الثانية والثالثة مأدبة عشاء بحضور فريق عمل الرئيسين وهم الوزراء باسم السبع وغطاس خوري وعلي حسن خليل، وعلى صعيد الأطباق فقد كان الطبق الرئيسي حتما موضوع الحكومة، والعقد السياسية والطائفية والمذهبية التي تعترض التشكيل وصولا الى الحصص في الأعداد والأحجام، إلا ان تصريح الرئيس نبيه بري الأخير والخطير في آن معا بأن "البلد من سيء الى اسوأ" كان خبز المأدبة، اذ ان اوضاع الوطن لا تبشّر بالخير ابدا لا سيّما وان الكلام أتى على لسان برّي الذي لطالما كان صمّام أمان البلد من خلال خبرته السياسية وقراءته الموضوعية للواقع السياسي اضافة الى علاقاته الدولية التي يسخّرها دوما في متابعة الأوضاع الاقليمية وانعكاساتها المحتملة على لبنان.
من جهة اخرى، فإن الكباش السياسي الحاصل والذي لم تخمد نيرانه حتى الآن تشتد وتيرته يوما بعد يوم، حيث ان مناطق خفض التوتر السياسية لا تشرف عليها جهة ضامنة ما يجعلها متفلتة من ضوابط الصراع واهم هذه الضوابط يفترض ان تكون مصلحة الوطن العليا! هذا الصراع السياسي الخارج عن السيطرة والذي لا يقيم وزناً لتردّي الواقع الاقتصادي والمالي والبيئي والمعيشي للمواطن، والهموم اليومية والأزمات المتفاقمة التي تعترضه، يختصر ضحالة الطبقة السياسية تحت عنوان عريض "الفساد"!
مثلث الصراع السياسي المستفحل، الضلع الثابت فيه هو التيار الوطني الحر والوزير جبران باسيل تحديدا، أما الأضلع المتبقية ينقسمان بين القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي، فما أن تهدأ جبهة تندلع اخرى، اما باقي الأفرقاء السياسيين فهم في دائرة واحدة، من المستقبل الى المعارضة السنية وتيار المردة والاحزاب الاخرى.
على ما يبدو، فالوزير باسيل مستمر في سياسة إيجاد الخصوم، وإذا كان هذا الأمر مبررا بنظره في مرحلة الانتخابات النيابية الماضية، تحت راية شدّ العصب، الا ان هذا النهج بات مستهجنا لدى الجميع لأن من شأنه ان يصل بالبلد الى ما لا تحمد عقباه. وإذ جاء كشف ورقة "التفاهم" السرية ليصب الزيت على النار، دفع بالمواطن للكفر بهذه الطبقة السياسية التي بنى عليها آمالا لجهة توحيد الصف المسيحي ودعم الشباب اللبناني في كافة المجالات ومنعهم من الهجرة الى بلاد الله الواسعة، حيث ان التفاهم بدا عبارة عن اتفاق بين قوّتين لتقاسم مقدرات الطائفة ووظائفها دون اعتبار لأحد، وثم انقلب الطرفان على بعضهما وبدأ استعراض "العضلات" ومن الأقوى!
"التنوع هو الطريق الى الوحدة والديمقراطية، اما الثنائية فهي غير مقبولة ومسار صراع مستمر"، هذا ما صرّح به البطريرك الراعي أمس من امام القصر الجمهوري إثر لقائه فخامة الرئيس ميشال عون، وهذه العبارة تؤكد على ان المسؤولية تقع على الثنائي المسيحي في دفع الوضع السياسي نحو هذه المرحلة المتأزمة.
وسط هذا الصراع السياسي المحتدم، والذي هو انعكاس للصراعات الاقليمية بين محورين، يقبع لبنان في الوسط، متدرءا بقبعة من قش، قد تحترق عند اول شرارة متطايرة من نيران الصراع الاقليمي الدائر، ولعل الخوف المؤكد هو ان تسقط مقررات مؤتمر "سيدر" في ظل هذه التطورات وانعكاساتها على الواقع الاقتصادي والانمائي للبلد اضافة الى ان ظروف النازحين السوريين والكباش السياسي حول وضعهم من حيث البقاء او الرحيل في ما سمّي "عودة آمنة وطوعية"!
وبالعودة الى دور رئيس مجلس النواب نبيه بري، فمن الواضح انه يحرص على عدم تفويت فرصة نتائج المؤتمرات التي عقدت دعما للبنان، والترفع عن الأداء السياسي الوضيع حرصا على انهاض الوطن من كبوته.
ان الخطوات الاصلاحية الموعودة من اقفال مزاريب الهدر ووقف الفساد المستشري واطلاق يد القضاء وعودة النازحين وغيرها، ما تزال على رصيف انتظار تشكيل الحكومة المرتقبة والبدء بورش البناء والإنماء، إن بدأت، وتبقى وصية الرئيس المكلف سعد الحريري من على أدراج قصر "عين التينة": كبروا عقلكم" أشبه بشعار "الخرزة الزرقاء"، على صدر السياسيين وأما على الوطن، فلم تعلّق بعد سوى النكبات!!