لم يعد خفيًا أن ما يؤخر تأليف الحكومة العتيدة هي عقد ظاهرة وأخرى خفية، من دون إستبعاد العوامل الخارجية المؤثرة، مع العلم أن العمل جارٍ لفكفكة هذه العقد، على رغم صعوبة هذه العملية، إذ يستفيق اللبنانيون كل يوم على معطىً جديد لم يكن واردًا في الحسبان قبل 24 ساعة من ظهور عقد جديدة. فما يكاد المعنيون يتوصلون إلى صيغة مقبولة لشكل الحكومة، من حيث صحة تمثيل القوى فيها، أحجامًا وحقائب، حتى تبرز عقدة جديدة تعيد البحث إلى مربعه الأول.
ومن بين العقد الظاهرة ما يُسمى بـ"العقدة المسيحية" نتيجة التجاذب القائم بين "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر"، وما أفرزته المواقف الأخيرة للوزير جبران باسيل، التي أستدعت ردًّا عنيفًا من الدكتور سمير جعجع.
فماذا قال باسيل: "انا اكثر من تحمّل في العالم كلاماً واتهامات للحفاظ على هذا تفاهم معراب. وعلى مدى سنة استمرت اتهاماتهم في الحكومة وفي موضوع التعيينات وهذا ظلم، وكذلك في موضوع الكهرباء والفساد، الامر الذي لا نتحمّله من اي فريق آخر، لكن لأنه من "القوات" تحمّلناه لنحافظ على الاتفاق، لكن عندما أخلّوا هم به سياسياً، ونحن لا يمكننا التعاطي بالجزئيات بل التعاطي يجب ان يكون في أساس هذا الاتفاق السياسي ونبني عليه، علماً أنّي أبلغتُ "القوات اللبنانية" رسمياً ومباشرة مرات عدة منذ بدأوا هجومهم السياسي داخل الحكومة وفي الاعلام علينا، "انّ هذا الاتفاق معلّق"، ولم أبلغهم هذا الامر اليوم انما منذ وقت طويل، ورسمياً وتحديداً عند التعيينات. وعندما بدأت الانتخابات النيابية على اساس الاتفاق معاً وهم لم يريدوا التحالف معنا وأخلّوا في الاتفاق، حتى في بعض الاقضية اتفقنا على التحالف معاً لكن "القوات" اختارت عدم التحالف. عملياً هذا الاتفاق "عُلّق تنفيذه"، فلا يمكن في مرحلة معينة القول "الآن نريد تطبيق هذه الفقرة من الاتفاق والتخلّي عن بقية الفقرات فالقصة ليست انتقائية".
أما جعجع فأشار إلى أنّ "كلّ ما يحاول باسيل فعله أن يحبس علينا مقعداً وزارياً بالطالع أو بالنازل والسؤال: هل هكذا تُكافأ القوات؟ هذا معيب جداً... فوفق أرقام باسيل غير الدقيقة عن نسبة تمثيلنا بـ31 بالمئة من الصوت المسيحي، تكون حصتنا 5 وزراء... على ماذا يُشارِع"؟
ولفت إلى أنّ "مهمة التأليف تقع على عاتق الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية، ولماذا يتنطّح باسيل ويأخذ دور رئيس الجمهورية؟ للأسف حديثه مليء بالمغالطات، وتقريباً لا يمكن أن نستخلص منه كلمة حق واحدة. رفْضنا مناقصة بواخر الكهرباء هو أكثر تصويت مع العهد لأنّنا جنّبناه صفقة العصر، وسنبقى نصوّت ضدّها إلى أبد الآبدين".
وختم: "متمسكون بتفاهم معراب وإذا كان باسيل راغباً في نقْضه فهو حرّ. نكّن كلّ الإحترام والتقدير لرئيس الجمهورية، وأقصى تمنياتنا أن ينجح هذا العهد وأكثر من يقوّض العهد هو تصرّفات باسيل وأقول ذلك بكل أسف".
أمّ العقد!
أما في ما يتعلق بالعقد الأخرى كالعقدة الدرزية والعقدة السنية فالعمل جارٍ لإيجاد مخارج مقبولة لها، لتبقى العقدة الخفية، وهي التي تكاد تكون العقدة الأساس في تأخير ولادة الحكومة، والمتمثلة بصلاحيات رئيس الحكومة المنوطة به وحده مهمة التأليف، وما يُحكى عن الثلث المعطِّل الذي يطالب به باسيل ويرفضه الرئيس المكلف حتى ولو طال التأليف.
فقبل إتفاق الطائف لم يكن مجلس الوزراء ملحوظًا في الدستور السابق الذي لم يتضمن إشارة واضحة إلى رئيس مجلس الوزراء الا في مادتين: الأولى هي المادة 53 التي كانت تنص على إن رئيس الجمهورية يعين الوزراء ويسمي منهم رئيساً، والمادة 66 التي ذكرت أن بيان الحكومة يعرض على مجلس النواب بواسطة رئيس الوزراء أو وزير يقوم مقامه.
وقبل الطائف أثيرت هذه القضية في مؤتمر لوزان، وكانت للرئيس الراحل رشيد كرامي مواقف لافتة في هذا الخصوص عندما رد على بعض المؤتمرين بقوله: "إن نظام الحكم في لبنان هو مشاركة في الظاهر، ولكن عنوانه هو مستمد من طغيان طائفة على الحكم بكل مؤسساته"، وأن "الطائفية حقاً هي السبب في الفساد السياسي"، وهي "مطية الوصول إلى الأهواء والمصالح الحزبية والذاتية ".
فمداخلة الرئيس كرامي جاءت في معرض مناقشة صلاحيات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وتحديد صلاحياتهما. وتوسعت الاقتراحات فعرض البعض من المشاركين في المؤتمر أن يصار إلى انتخاب رئيس مجلس الوزراء من قبل مجلس النواب بالأكثرية النسبية، وتأليف الحكومة من قبل رئيس مجلس الوزراء ورفعها إلى رئيس الجمهورية لإصدار مراسيم التعيين. ومن ثم ينفرد رئيس مجلس الوزراء بترؤس الجلسات الحكومية وفقاً لمبدأ فصل السلطات بما يضع حداً للتنازع المزمن، على أن يقسم رئيس مجلس الوزراء اليمين الدستورية أمام مجلس النواب الذي انتخبه. وعندها يصدر رئيس الجمهورية المراسيم حكماً خلال أسبوع لا أكثر. فاعترض الرئيس كميل شمعون بالقول "أخذتم كل صلاحياته". واعتبر الرئيس سليمان فرنجية أن المشاركة بهذا المفهوم هي احتكار للحكم قائلاً: "نبحث بالطائفية وبإلغاء الطائفية، ثم نعطي الحقوق لطائفة من حقوق الطائفة الثانية. هذا مرفوض جداً".
فرد أحد المؤتمرين أن هذا الجواب يعني أن رئيس الجمهورية مهيمن على الحكم. فرد قائلاً "جائز كثيراً أن يكون رئيس الجمهورية مهيمن على الحكم من دون أن يدري". واعتبر أن هذا الفصل بالصلاحيات يدفعه إلى المطالبة برئاسة الوزارة للمسيحيين وحصر رئاسة الجمهورية بالمسلمين؟! وكان مصراً على ذلك.
إلا أن اعتراض الرئيس كميل شمعون على الاقتراح أعاد الأمور إلى بداياتها من النقاش والخروج من المؤتمر من دون نتيجة.
أما الدستور الحالي فينص على صلاحيات رئيس مجلس الوزراء كما جاء في المادة 64 ومن بينها أنه يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها، ويوقع مع رئيس الجمهورية جميع المراسيم ما عدا مرسوم تسميته رئيساً للحكومة ومرسوم قبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة، ويدعو مجلس الوزراء إلى الانعقاد ويضع جدول إعماله ويطلع رئيس الجمهورية مسبقاً على المواضيع التي يتضمنها وعلى المواضيع الطارئة التي ستبحث.
وفي هذا المنحى كان الرئيس نجيب ميقاتي واضحًا، وقال: "نحن مع العجَلة ولكنّنا ضد أيّ محاولة لفرض شروطٍ على الرئيس المكلف أو محاولة تثبيت أعراف جديدة في التأليف، فالدستور واضح، وقد أناط مهمّة التأليف بالرئيس المكلف بالتشاور مع رئيس الجمهورية. المطلوب، من أجل التوصّل الى حلّ، هو العودة الى اتفاق الطائف وروحيتِه بدل التوغّل اكثر فأكثر في المنحى الطائفي والمذهبي في كلّ شيء، خصوصاً في عملية التأليف وتوزيع الحقائب الوزارية. فبدل الخروج تدريجاً من الطائفية نجد أنّنا نغرق اكثر فأكثر في وحولِ المذهبية، وهذا المنحى غير سليم أبداً".
ملاحظة: ما ورد من كلام لكل من الرؤساء شمعون وفرنجية وكرامي مقتطف من محاضر مسرّبة وغير رسمية لمؤتمر لوزان.