كتب المفكر والإعلامي والديبلوماسي الراحل واجد دوماني في العديد من الصحف والمجلات، وأغنى صفحاتها بما كتب عن الفكر والأدب والثقافة والإعلام والسياسة والصحة والإنسان وشؤون الحياة، بأسلوب يعتمد العمق والبساطة والسلاسة والأناقة في آن، وينبع من غنى الثقافة وغزارة الإطلاع وعمق التجارب. بعض مقالاته يعود إلى الستينيات، ومع ذلك فإنّ القارىء يتفاعل معها وكأنها كتبت اليوم، ولقد اختار"لبنان 24" إعادة نشر هذا المقال، وعنوانه: "الأمن الذاتي.. والأمن الحكومي..".
الأمن.. حلم الإنسان منذ بدء الخليقة.. ومشكلة الإنسان الأساسية في رغيفه وأمنه.. وأصبح اليوم الأمن يتقدم على الرغيف.. وما الكتب السماوية والرسل، والرسالات التي نزلت على الإنسان.. وحملها الرسل إلا وكانت تستهدف الإنسان نفسه، وتخاطبه مهدئة غرائزه البدائية.. وترسم له الحدود.. وتردعه من الاعتداء على حقوق الآخرين.. وتنذره وتهدده بالعقاب.. وتمارس عليه مختلف أنواع الترهيب والترغيب.. ولكنها كانت.. وما زالت تصب في خانة "الأمن" بقوله تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوفٍ)..
ولقد تطور مفهوم الأمن بتطور المجتمع.. وتعقدت وسائله بتعقد وتشابك مصالح الأفراد، وهطلت الثروات لتصب الزيت على نار المجتمع فتزيد التهاب النفوس.. واشتعال القلوب.. وتعجز الدولة عن إيجاد "حد قانوني" يردع به كل من تخوله نفسه على التمرد والعصيان والاعتداء على الآخرين.
ويبدع الفكر "الحكومي" أسماء مختلفة على الأمن.. فيقول "بالأمن الغذائي.. والأمن الاقتصادي.. وأمن الدولة.. والأمن القومي.. والأمن العام.. وكلها أسماء وهيئات وأجهزة تعمل لتحقيق أقصى ما يمكن من "الأمن" الذاتي للفرد..
ومع كل هذه التسميات لهذه الأجهزة.. فإن الأمن الذاتي ما زال "عارياً" من الحماية، وبخاصة لطبقة معينة من المجتمع، التي تجد نفسها أكثر عرضة من غيرها لانتهاك حرمة أمنها.. فالعقل التجاري الخلاق.. استطاع أن يتوصل إلى وسائل جديدة، أكثر تطوراً من الوسائل البدائية.. وأكثر حماية من وسائل الدولة.. فقد قرأت قبل أيام: أن شركة "أن بـي سي" الأميركية عرضت شريطاً تلفزيونياً عن ظاهرة الأمن الذاتي التي تجتاح أميركا - يتضمن هذا الشريط حوادث عنف تستهدف السرقة والسطو.. والاعتداء على كل شخص يكون عقبة في طريق هذه السرقة.. كما عرض الشريط مشاهد عشرات المنازل وقد تحولت إلى قلاع، الدخول إليها يخضع لعملية عبر لوحة إليكترونية صغيرة مؤلفة من 18 رقماً، وكل مقيم في البناية يملك ثلاثة أرقام سرية إذا كبسها فتح له الباب. ولكن جرس الإنذار المبكر هو الغالب على هذا الأمن الذاتي.. ويكلف تركيبه آلاف الدولارات...
وبعد!!
الأمن وحده بات.. يشغل العالم هذه الأيام.. أي البحث عن "جنة الأمن المفقودة".