بسرعة غير متوقعة، خَفتَ وهج المقترحات الروسية لإعادة النازحين السوريين إلى بلدهم.. شكوكٌ واستفهامات وأغراض سياسية وأهداف اقتصادية تتجاوز المسألة الإنسانية.. حتى لكأنها لم تكن.
هذا الواقع ليس مفاجئاً. الأمر عكسته منذ البداية الصحافة الغربية، التي لفتت إلى ثلاثة أهداف رمت إليها المقترحات الروسية التي لم ترقَ إلى رتبة مبادرة، وهي: إعادة تعويم شرعية الرئيس السوري بشار الأسد، اجتذاب التعاون مع الحكومة السورية تحت عناوين التنسيق في عودة النازحين وإعادة إعمار سوريا، واستدراج التمويل، الأوروبي تحديداً، لإعادة الإعمار المفترضة.
فموقع "ليما تشارلي نيوز" لفت في تقرير له إلى أن مساعي موسكو ترمي إلى "شرعنة" حكم الرئيس السوري بشار الأسد، مذكراً بالجانب الآخر من المقترح الروسي وهو إنشاء مجموعة إقليمية مشتركة لتمويل ترميم البنى التحتية في سوريا تحت قيادة الحكومة السورية، ولفت إلى أنّ قيمة فتح الحدود بالنسبة إلى الأسد وبوتين تعادل إعادة إضفاء الشرعية على الحكومة السورية وتطبيع وضعها الإقليمي، ذلك أنّ الحكومات المحلية ستضطر إلى الاعتراف بموقع الرئيس السوري والاعتراف بأنّه أرسى الاستقرار في سوريا.
أما موقع "المونيتور" فسأل عن موقف أطراف أخرى تعمل على الساحة السورية، إذ مع احتمال حصول تعاون روسي – أميركي في سوريا، ومع مواصلة إسرائيل شن ضربات جوية على سوريا، هل ستقبل إيران بموقف المتفرج فقط، أم أنها صمّمت استراتيجية وقائية ثنائية الجانب للحفاظ على مصالحها في سوريا؟
كذلك أشارت مجلة "ذا أتلانتيك" الأميركية بأنّ الروس يصوّرون الأسد على أنّه أساسي لعودة النازحين، والقضاء على الإرهاب، والدفاع عن إسرائيل، وذلك في إطار مساعي موسكو الرامية إلى حصد أرباح تدخلها في سوريا. كاشفة عن مساعي روسيا لإقناع إسرائيل بأنّ عودة الأسد للسيطرة الكاملة على جنوب سوريا تمثّل الفرصة الأفضل لعودة الهدوء الذي ساد قبل العام 2011، وإبقاء إيران والمقاتلين الذين تدعمهم بعيداً عن الجولان المحتل.
لا "خطة" بل اقتراحات
وفي وقت تداول الإعلام أفكاراً عن المبادرة الروسية التي عرضت على لبنان والأردن وتركيا، بعيد قمة هلسكني ما أوحى بأنها بنيت على تفاهم روسي – أميركي، كشفت معلومات لـ "لبنان 24" أن لا "مبادرة" روسية في هذا الإطار، بل "اقتراحات" أولية للتحضيرات اللوجستية تتضمن أرقاماً واحصاءات عن اللاجئين وبلدان لجوئهم، واحتياجات انشاء مراكز ايواء وإعادة الإعمار.
وكشفت المصادر نقلاً عن ورقة روسية جرى تسليمها للجانب اللبناني خلال زيارة المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف إلى لبنان في 26 و27 تموز الماضي، وكان لافرنتييف سلمها أيضاً لبعض السفارات الغربية التي لا تزال تعمل في دمشق، أن الورقة تضمنت خطة لإعادة 350000 نازح في المرحلة الأولى وحددت أماكن عودتهم، و550000 ألفاً بعدها، بالاضافة إلى لائحة باحتياجات بناء مراكز الايواء والحاجة لمعدات ثقيلة تستعمل في الإعمار، وكذلك تكاليف السفر وغيرها مما هو اشبه بطلب تمويل دولي، من دون أي ذكر للضمانات الأمنية، أو شراكة أو رعاية الأمم المتحدة للعملية، ناهيك عن أن الأرقام التي تضمنتها الورقة أقل مما هو متداول في العلن وفي التقارير الدولية، واحتسابها مرتجل إلى درجة الخفة؟!!
مثلاً، بحسب مصادر "لبنان 24" فإنه وخلافاً للأرقام التي خرجت إلى العلن بأن المقترحات تنص على إعادة نحو مليوني لاجئ، فإن المرحلة الأولى منها تنص على إعادة نحو 336 ألف لاجئ، على قاعدة أن في سوريا 76 موقعاً أو منطقة، تضررت بشكل جزئي بفعل الحرب. بالتالي، يمكن الشروع بإصلاحها لتوفير إعادة اللاجئين إليها. ففي حلب مثلاً، تقارن الدراسة بين عدد السكان قبل الأحداث وبعدها، وتخلص إلى أن الراحلين عن تلك المنطقة يصل عددهم إلى 136 ألف شخص.
بالتالي، يمكن إعادتهم بسهولة!! وكذلك الأمر في ريف دمشق يبدو الفارق بنحو 23 ألف شخص، وبالتالي يمكن إعادتهم.. وصولاً إلى تأمين عودة ما بين 500 ألف و600 ألف نازح ولاجئ سوري!! كذلك تتضمن المقترحات مسحاً لآلية إعادة اللاجئين، والطرق التي يمكن سلوكها، وعدد الرحلات الجوية والبحرية والبرية، والناقلات التي يجب أن تكون في الخدمة لتنقلهم في الأراضي السورية، وهذا لا يمكن أن يتحقق بحسب الروس قبل سنة في الحدّ الأدنى، وإذا ما توفر التوافق الدولي وتأمن الدعم المالي لإصلاح المناطق المذكورة، وتشييد مساكن، وإنشاء البنى التحتية.
هكذا يبدو أن الطرح الروسي يرتكز إلى شكليات تقنية من دون أن يلحظ الجوانب السياسية والأمنية والميدانية والقانونية والاجتماعية التي تحول دون عودة النازحين.
ترحيب وحذر في آن
في لبنان، وكما في كل الملفات والقضايا والمسائل، بدا أن انقساماً مرشحاً للتوسع يحكم المواقف من العرض الروسي، بين مهلل له وآخر متريث بانتظار تظهير الصورة. هكذا سارع كلّ طرف وفق حساباته الخاصة إما إلى تبجيل المبادرة ووصفها بالجدية جداً، والقادرة على حلّ أزمة اللجوء، أو اعتبارها جسراً للتطبيع مع النظام السوري من باب إعادة النازحين، أو غطاء روسياً للتنسيق مع النظام السوري للمشاركة بورشة إعادة الإعمار، وثمة من ينتظر اتضاحها أكثر ليبني على الشيء مقتضاه، وخصوصاً موقف الأطراف الدولية، الأوروبية تحديداً المعنية بمسائل التمويل وهي لا تبدو متحمسة حتى الآن، وكذلك الأمم المتحدة المعنية بتنظيم العودة وضمان أمن العائدين.
في المعلومات القليلة أن الجانب اللبناني الذي شارك في الاجتماع التقني مع الوفد الروسي في السراي الكبير كان مستمعاً، وتعامل ببراغماتية حيال ما طرحه الروس، ولم يعط أجوبة نهائية بانتظار اتضاح الخطة وتبلور الموقف الدولي، الأوروبي تحديداً، والفرنسي بشكل أخص، والأمم المتحدة من جهة ثانية، ذلك أن للمسألة في لبنان أبعاداً تتجاوز إعادة مئات آلاف النازحين، معظمهم غير راغب بالعودة أصلاً، وتتصل بالشأن السياسي والتطبيع مع النظام السوري ومدى قابلية الداخل اللبناني لهكذا خطوة.
في الخلاصة، وإزاء الاستعجال الروسي لتسويق مقترحات إعادة النازحين، واستدراج عروض إعادة الإعمار وإغراء الأوروبيين بالمشاركة في تمويل الإعمار مقابل إغرائهم بأن هناك نحو 100 ألف من اللاجئين على أراضيهم ستعمل موسكو لإعادتهم إلى الداخل السوري، وكل التعقيدات التي ذكرت سابقاً، ستجعل من المقترحات، إن لم تبادر موسكو إلى تعديل ثغراتها، وتقرنها بحل سياسي ورعاية الأمم المتحدة، وكأنها لم تكن، لكنها أضافت عنواناً جديداً للسجالات الداخلية اللبنانية التي لن تنتهي، حتى ولو انتهت الأزمة السورية!