يشهد الاقتصاد الألماني مرحلة دقيقة من التحولات، بعد فترات طويلة من التباطؤ، إذ تتطلع الأوساط الاقتصادية إلى ما قد يحمله العام المقبل من فرص للتعافي، وذلك في ظل بيئة عالمية متقلبة، تتناغم فيها العوامل المحلية مع التحديات الخارجية، لتشكل معادلة معقدة لمسار النمو المستقبلي.
تركز التحليلات الاقتصادية على مدى قدرة الحكومة
الألمانية والقطاع الخاص على الدفع بعجلة الاقتصاد، من خلال سياسات مالية واستثمارية مختلفة، وسط ضغوط تنافسية متزايدة من الأسواق الآسيوية المتقدمة تكنولوجياً ومالياً. وتتباين التوقعات حول قوة التعافي، بين من يرى انتعاشًا محتملًا وبين من يحذر من محدوديته.
كما يلفت اهتمام الخبراء إلى أهمية السياسات الحكومية في تحديد مسار الاقتصاد على المدى المتوسط، خصوصاً في ما يتعلق بالاستثمارات والبنية التحتية والإصلاحات الهيكلية.
يشير دويتشه بنك ضمن توقعاته العالمية للعام 2026، إلى "نقطة تحول" للاقتصاد الألماني. وينثل عن كبير الاقتصاديين الألمان في قسم الأبحاث بالبنك، روبن وينكلر، قوله:
بعد
سنوات من الركود، الانتعاش بات وشيكاً بحلول عام 2026.
"على الرغم من أن الاقتصاد الألماني قد تجاوز الركود هذا العام، إلا أنه من المتوقع أن يبدأ الانتعاش الحقيقي في العام المقبل".
"نتوقع لعام 2026 انتعاشاً اقتصادياً ملحوظاً ونمواً في الناتج المحلي الإجمالي يصل إلى 1.5 بالمئة".
"في الوقت نفسه، من المرجح أن تشهد سوق العمل استقراراً على الأقل".
ووفق البنك، سيأتي أقوى حافز للنمو من زيادة كبيرة في الإنفاق الحكومي، بينما من المرجح أن يقدم المستهلكون والمستثمرون من القطاع الخاص حوافز طفيفة للنمو في الوقت الراهن.
يقول وينكلر: "مع ذلك، يُعد الاستثمار الكبير للشركات في الملكية الفكرية تطورًا مشجعًا، إذ يعوض بشكل متزايد ضعف الاستثمار في المعدات".
وبالإضافة إلى تحفيز الطلب الحكومي الجديد في الهندسة المدنية، يتوقع وينكلر انتعاشًا أوليًا وحذرًا في قطاع البناء السكني. إلا أن التجارة الخارجية ستستمر في إبطاء النمو بسبب استمرار ضعف القدرة التنافسية.
وفي السياق، تلعب السياسة الاقتصادية للحكومة الألمانية دورًا محوريًا. يقول وينكلر: "اكتملت تخفيضات أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي
الأوروبي، ولن توفر السياسة النقدية مزيدًا من التحفيزات التوسعية. يجب استخدام الصندوق الخاص بالبنية التحتية والحياد المناخي بطريقة هادفة لتحقيق آثار نمو طويلة الأجل". ويضيف أن على الحكومة أيضًا معالجة الإصلاحات الهيكلية المتأخرة، مثل تقليص البيروقراطية.
تعافي شكلي
من برلين، يقول الكاتب والمحلل، عبد المسيح الشامي، لموقع "اقتصاد
سكاي نيوز عربية":
هناك تباين واضح في توقعات المعاهد ومراكز الأبحاث بشأن أداء الاقتصاد الألماني خلال العام المقبل.
بعض الجهات تتوقع نمواً يتراوح بين 1 و1.5 بالمئة، في حين ترى معاهد أخرى أن النمو قد لا يتجاوز 0.2 بالمئة، ما يعني عملياً غياب نمو اقتصادي حقيقي.
خطة الإنفاق التي اعتمدتها الحكومة الألمانية الحالية قد تؤدي إلى انتعاش محدود في
الدورة الاقتصادية، عبر تحريك عجلة السيولة وزيادة فرص العمل.
من المرجح أن يكون هذا الانتعاش "شكلياً" ناتجاً عن الضخ المالي، وليس عن تحسن جوهري في أساسيات الاقتصاد.
ويضيف: هذا الإنفاق سيترتب عليه في المقابل أعباء كبيرة على الحكومة، ما قد يحدّ من قدرتها على الاستمرار في دعم النمو على المدى المتوسط، خاصة في ظل التوترات العالمية، وارتفاع أسعار الطاقة، وتكاليف الحروب، وزيادة أسعار المواد الأولية.
ويشير الشامي إلى أن الاقتصاد الألماني يواجه منافسة شديدة من آسيا، لا سيما من دول تمتلك قدرات مالية وتكنولوجية ضخمة، مؤكداً أن المنافسة لم تعد مقتصرة على
الصين فحسب، بل تشمل عدداً كبيراً من الاقتصادات الآسيوية المتقدمة تكنولوجياً ومالياً، حتى في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي.
ويلفت إلى أن الأسواق الآسيوية تتمتع بمرونة مالية أكبر، وتكاليف إنتاج أقل، وأسواق محلية واسعة تدعم
دوران عجلة الاقتصاد، بالإضافة إلى تحسّن ملموس في القوة الشرائية، ما يعزز من قدرتها التنافسية عالمياً.
ويختتم الشامي حديثه بالقول: "هذه العوامل مجتمعة ستحدّ من قدرة الاقتصاد الألماني على تحقيق نمو حقيقي في المرحلة المقبلة"، مرجحاً أن يظل الأداء الاقتصادي في إطار "تعافٍ شكلي" مرهون بقدرة الحكومة على إدارة الأزمات ومجاراة المنافسة العالمية المتصاعدة.
توقعات محدودة
وتشير توقعات "حكماء الاقتصاد" في ألمانيا إلى أن الاقتصاد الوطني لن يشهد انتعاشاً واسع النطاق حتى في العام المقبل.
وخفّض المجلس توقعاته للعام 2026 قليلاً، حيث يتوقع الآن أن يحقق الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا نموا بنسبة 0.9 بالمئة فقط، بعد أن كانت تقديرات المجلس في الربيع تشير إلى أن هذه النسبة ستبلغ 1 بالمئة. أما الحكومة الألمانية فتتوقع نموًا أقوى نسبيًا بمعدل 1.3 بالمئة في العام المقبل.
ومجلس "حكماء الاقتصاد" هو هيئة استشارية تابعة لمجلس الوزراء الألماني، تضم خمسة من كبار الخبراء في مجال الاقتصاد، واسمها الرسمي هو " مجلس الخبراء لتقييم التنمية الاقتصادية الشاملة".