كتب داوود رمال في" نداء الوطن": يسعى
لبنان اليوم، على المستوى الرسمي، إلى الخروج نهائيًا من لعبة المحاور التي استنزفت بنيته الداخلية وجرّت ساحته إلى صراعات خارجية أثرت على اقتصاده واستقراره وموقعه الإقليمي. هذا التوجّه انتقل من كونه شعارًا سياسيًا رُدد لعقود، فتحوّل إلى مسعى منهجي تعمل عليه مؤسسات الدولة بدعم مشترك من الرؤساء الثلاثة والقوى السياسية، بهدف إعادة تموضع لبنان كدولة ذات سيادة مستقلة ترتبط بمحيطها العربي والدولي وفق منطق المصالح الوطنية لا وفق مقتضيات الاصطفافات.
في هذا الإطار، بدأت تتكوّن ملامح علاقة سوية بين المكوّن الشيعي من جهة، والمملكة
العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة من جهة ثانية، وهي علاقة كانت لسنوات عرضة للتوتر وسوء الفهم. كما يشمل هذا المسار محاولة مقاربة جديدة تجاه
سوريا، وإن كانت العلاقة معها تحتاج إلى مبادرات إضافية وإلى وقت أطول نظرًا لتعقيدات الوضع السوري. ويتولى
المدير العام للأمن العام اللواء حسن شقير، وبتفويض ودعم من الرؤساء الثلاثة، إدارة هذا المسار الدقيق بهدف تنقية العلاقات وإعادة بنائها على أسس التكافؤ واحترام السيادة المتبادلة.
ومع أن مسؤوليات الدولة
اللبنانية واضحة في هذا السياق، إلا أن الوضع يضع المكوّن الشيعي، وتحديدًا "
حزب الله"، أمام اختبار جوهري يقوم على تحمّل مسؤولية حماية لبنان لا إدخاله في حروب جديدة. المطلوب أن يلتزم" الحزب" بمبدأ تحييد لبنان عن الصراعات وأن يحرص على عدم التسبّب بأي دماء جديدة أو دمار إضافي، لأن استمرار الواقع الحالي يضعه أمام محاسبة داخل بيئته قبل خارجها، ويجعل من خيار الاندماج في مشروع الدولة أمرًا لا مفر منه.
لكن نجاح هذا المسار يحتاج إلى ضمانات حقيقية للمكوّن الشيعي، سواء من دول الخليج أو من الدول الغربية، تتمثل في مسار واضح لترسيم الحدود مع سوريا، وفي نشر جيش نظامي من الجانبين لضبط المعابر، إضافة إلى تثبيت الحدود مع
إسرائيل والالتزام الكامل باتفاق وقف الأعمال العدائية. حين تتحقق هذه الخطوات يصبح ممكنًا للبلاد أن تدخل مرحلة أمن واستقرار مستدامَين، وتصبح الدولة وحدها المرجعية في ملفات السيادة والسلم والحرب، وحصرية السلاح، وإدارة الأمن والرعاية.
عندها، سيكون مطلوبًا من المكوّن الشيعي الانخراط الكامل في مشروع بناء الدولة الحديثة على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، والعودة إلى الأسس التي وضعها الإمام السيد موسى الصدر عندما عمل على مأسسة حضور الشيعة داخل الدولة لا خارجها. فكل المبادرات العربية والغربية اليوم تتقاطع على هدف واحد يقوم على تثبيت وقف الأعمال العدائية، ترسيم الحدود مع سوريا، سحب الفصائل المسلحة، نشر جيشَين نظاميين، وإلزام إسرائيل بتنفيذ الاتفاقيات. وعندما تتوافر هذه المعطيات مجتمعة، يصبح إدماج "حزب الله" في مشروع الدولة مسارًا ملزمًا وليس خيارًا سياسيًا.
هذا المسار لا يتناقض مع الحفاظ على علاقة ممتازة مع
إيران، شرط أن تكون عبر الدولة اللبنانية حصرًا، لا عبر الأحزاب والقوى. وهو النموذج نفسه الذي تبناه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقاربة الملف اللبناني، حين اعتبر أن التعامل مع لبنان لا يكون مع العائلات أو الأحزاب بل مع الدولة نفسها..