ما قاله الأمين العام لـ "حزب الله" الشيخ نعيم قاسم مؤخرًا من أنّ "من واجب كل مسلم أن يطالب بالدولة الإسلامية حيث يعيش"، ليس جديدًا من المنظور العقائدي، وإن كان غير متطابق مع الواقع اللبناني المتعدّد الديانات والثقافات. لكن هذا الكلام الصادر عن مقام أحد أعلى مرجعية دينية وسياسية لدى الطائفة الشيعية في لبنان، وفي هذا التوقيت بالذات، قد أعاد النقاش في لبنان وفي المنطقة إلى نقطة حساسة ومفصلية، وهي: هل أن الإسلام يدعو حقًا إلى إقامة دولة دينية، أم إلى إقامة مجتمع عادل يضمّ الجميع على قاعدة التعايش والمواطنة؟
قد يبدو هذا السؤال نظريًا للوهلة الأولى، لكنّه في عمقه الاستراتيجي هو سياسيّ بامتياز، لأنّه يمسّ بنية الدولة
اللبنانية القائمة على التنوّع الديني والطائفي، وعلى فكرة الميثاق الوطني الذي وُلد من رحم التجربة التاريخية، لا من نصوص دينية.
وفي اعتقاد كثيرين من العلماء والفقهاء المسلمين أن وضع لبنان اليوم يشبه كثيرًا الواقع، الذي كانت تعيشه مدينة يثرب، المدينة المنوّرة، حين هاجر النبي محمد إليها، فلم يجد أمامه مجتمعًا متجانسًا، عقائديًا وحضاريًا وثقافيًا وعادات، بل رأى فسيفساء من المكوّنات: المهاجرون والأنصار، اليهود، النصارى، الصابئون، وأفراد قبائل شتّى. ومع ذلك، لم يُنشئ النبي "دولة دينية"، بل وضع وثيقة المدينة، وهي بمثابة عقد مدنيّ لتنظيم العلاقة بين الجميع على قاعدة الحقوق والواجبات المشتركة.
تلك الوثيقة لم تُفرَض بالسيف ولا باسم الوحي، بل قامت على التوافق والاعتراف بالآخر. وأهم ما جاء في هذه الوثيقة "إنّ اليهود أمة مع المؤمنين، لهم دينهم وللمسلمين دينهم."
في هذا النص البسيط يكمن جوهر ما يمكن أن نسميه اليوم المواطنة، أي المساواة أمام القانون، وضمان حرية المعتقد، والشراكة في الدفاع عن حقوق كل مواطن.
فيثرب كانت دولةً مدنيةً قبل أن يكون مصطلح "الدولة المدنية" معروفًا. دولة لا تلغي الدين، لكنها لا تحكم باسمه. وهذا ما طالب به الرئيس
بري أكثر من مرّة، الذي يفرّق بسين مفهومي الدولة المدنية والدولة العلمانية، وما بينهما من فوارق.
فلبنان في جوهر كيانه التعدّدي والفسيفسائي يشبه كثيرًا المجتمع اليثربي من حيث تعدّده الديني والمذهبي، لكنه يختلف في طريقة إدارة هذا التنوّع. فبدلًا من أن يكون التنوّع مصدر غنى، صار في أغلب الأحيان مادة للنزاعات والخلافات والخصومات. وعلى رغم محاولات إدراج الميثاق الوطني في العام 1943، ثمّ اتفاق الطائف في العام 1989، من ضمن السلوكيات الطوعية في صياغة "وثيقة مدينة" حديثة، تضمن المشاركة والتوازن والعيش المشترك، فإن الواقع السياسي يبدو مختلفًا كثيرًا عن النظريات والمبادئ العامة.
وهذا الأمر يقودنا إلى الاعتراف بأن الخطاب الديني البحت عندما يتحوّل إلى مشروع سياسي من شأنه أن يهدّد صيغة العيش المشترك، التي تميز لبنان عن غيره من الدول، والتي ستكون محور زيارة البابا لاوون الرابع عشر للبنان نهاية هذا الشهر. وهذا التحّول في قلب الموازين وخلط المفاهيم الدينية بالمفاهيم السياسية من شأنه أن يُدخل منطق التفوّق الإيماني في قلب النظام السياسي، فيسقط مفهوم المواطنة ويسود منطق "الانتماء الطائفي".
من هنا، فإنّ الحديث عن "الدولة الإسلامية في لبنان" ليس فقط غير واقعي، بل هو ضدّ منطق الدولة اللبنانية نفسها التي بُنيت على مفهوم الشراكة لا الغلبة، وعلى إدارة التنوع لا تذويبه. ويكفي مراجعة البيان التأسيسي للبنان الكبير القائم على التنوع والشراكة الوطنية.
فالتجربة النبوية في المدينة المنورة تُظهر أنّ الإسلام في أصله أقرّ التعدد ولم يُلغِه، وأنّ قيام الدولة لم يكن هدفًا بحدّ ذاته، بل وسيلة لتنظيم حياة الناس بعدل وسلام.
أما تحويل الدين إلى مشروع سلطة فمن شأنه نقل الأوطان من دائرة الإيمان إلى دائرة الإكراه، ومن مجال الرحمة إلى مجال الصراع.
ما يمكن استنتاجه مما تقدّم هو أن اللبنانيين اليوم، وهم يعيشون أزمات الانقسام والانهيار، أحوج ما يكونون فيه إلى عقد وطني جديد يستلهم روح وثيقة المدينة، بعيدًا عن أي صيغة تكون فيها الغلبة الدينية على حساب العمل السياسي المتاح للجميع. وقد تكون الانتخابات النيابية المقبلة، إذا جرت في موعدها الدستوري، إحدى
المحطات الأساسية لإعادة تجديد الحياة السياسية بمفهومها المدني البحت بعيدًا عن التأثيرات الخارجية والمؤثرات الصوتية القائمة على فرض إرادة أي مكون من المكونات اللبنانية على المكونات الأخرى، سواء بالاستقواء بالخارج أو بالسلاح أو بمحاولة إعادة عقارب الزمن إلى ما قبل الجاهلية، وإلى ما قبل وثيقة المدينة المنورة.
فالمطلوب إذًا ليس أن تكون الدولة "إسلامية" أو "
مسيحية"، بل أن تكون عادلة وإنسانية، تحترم الجميع وتحميهم بالتساوي.
إذا كان على كل مسلم، كما قال الشيخ قاسم، واجب ديني، فليكن هذا الواجب اليوم هو الدفاع عن العدالة والمواطنة والتعايش، لا عن دولة مذهبية أو عقائدية تُقصي الآخرين. وهذا ما يجب أن يكون عليه لبنان، إذ لا خيار أمام اللبنانيين سوى العودة إلى ذلك الجوهر الإنساني الذي جعل من يثرب يومًا من الأيام نموذجًا فريدًا في تاريخ التعدد والعيش المشترك. (الشكر للنائب العام في الرهبانية البلدية والرئيس الفخري لجامعة الروح القدس الأب البروفسور جورج حبيقة).