لم يمرّ إعلان إلغاء زيارة قائد الجيش العماد رودولف هيكل إلى واشنطن مرور الكرام. فالقرار الذي صدر بصيغة "الإرجاء ريثما تتضح الأمور"، أتى في خضمّ حملة سياسية وإعلامية أميركية–إسرائيلية غير مسبوقة تجاه المؤسسة العسكرية، وانعكست على عدد من الاجتماعات التي كانت مُدرجة على جدول الزيارة قبل أن تُسحب تباعًا خلال الساعات الأخيرة، وسط حديث عن ضرورة "إعادة تعريف" دور الجيش في ضوء المواجهة المفتوحة مع "حزب الله".
وبقدْر ما بدا الإلغاء نتيجة طبيعية لتقلّص هوامش الحركة أمام الوفد اللبناني، بدا أيضًا تعبيرًا عن مناخ مختلف تتعامل فيه واشنطن مع الجيش في لحظة ميدانية حسّاسة يشهد فيها الجنوب أعلى مستويات التوتر منذ وقف إطلاق النار. فالضغط الأميركي الذي ظهر من خلال دعوات علنية داخل الكونغرس لوضع الجيش تحت رقابة "أشدّ"، ترافق مع تحريض إسرائيلي على خلفية اتهامات متعلقة بدور اليرزة في ضبط الحدود والسلاح.
ولعلّ ما يزيد من حساسية المشهد أن الإلغاء جاء متزامنًا مع واحدة من أعنف جولات التصعيد
الإسرائيلي في الجنوب منذ اتفاق وقف إطلاق النار، وهو ما تجلّى في المجزرة التي استهدفت مخيم عين الحلوة ليل الثلاثاء. ورغم عدم وجود ربط مباشر بين الحدثين، فإنّ تزامنهما يضع ملف الجيش والعلاقة مع واشنطن في قلب لحظة لبنانية دقيقة، حيث تتقاطع الضغوط الدولية مع هواجس الداخل من أن تتحوّل المؤسسة العسكرية إلى ساحة جديدة لتصفية الحسابات الإقليمية.
من الحملة على الجيش إلى إلغاء زيارة هيكل
في خلفية المشهد أيضًا، يبدو البعد السياسي أكثر من حاضر في إلغاء زيارة قائد الجيش، إذ إنّ واشنطن، وفق ما يقول العارفون، لا تبدو راغبة في منح المؤسسة العسكرية أي هامش إضافي للتموضع خارج الخطوط التي ترسمها. وقد سجّل مراقبون خلال الأسابيع الماضية تبدّلاً في نبرة بعض الأصوات الأميركية المؤثرة حيال
الجيش اللبناني، مع حديث بعض الدوائر الأميركية عن "الحاجة إلى إعادة تقييم" دور الجيش في الجنوب، وربط استمرار الدعم بموقف أكثر تشددًا من حزب الله وسلاحه.
هكذا، جاء تعليق الزيارة ليعكس حجم التداخل بين المسار الأمني جنوبًا وتوازنات الدعم الدولي للجيش، في لحظة يُعاد فيها تقييم موقع
لبنان داخل الحسابات الأميركية. وعلى هذه الخلفية، تسرّبت معلومات عن إلغاء أو تجميد بعض المواعيد التي كانت مدرجة على جدول الزيارة، بما في ذلك لقاءات مع مسؤولين في البنتاغون والخارجية، الأمر الذي أفقد الزيارة جزءًا كبيرًا من وزنها وأعاد طرح السؤال عن جدوى حصولها في هذا التوقيت.
بهذا المعنى، بدا أن إلغاء الزيارة جاء حصيلة تراكم ضغوط ومحاولات تطويق للزيارة قبل حصولها. ورغم أن واشنطن لم تُعلن رسميًا أي موقف سلبي، إلا أن الإشارات التي صدرت عن مراكز نفوذ أساسية فيها شكّلت، بالنسبة لبيروت، بيئة غير مشجعة على المضيّ بالزيارة ضمن شروط ملتبسة، علمًا أنّ أوساطًا قريبة من المؤسسة العسكرية حرصت على الحديث عن "تأجيل" لا "إلغاء" للزيارة، مع التأكيد على أنّ الجيش لم يغيّر مقاربته للتعاون مع
الولايات المتحدة.
حسابات المؤسسة العسكرية
تؤكّد أوساط قريبة من المؤسسة العسكرية أنّ البيانات التي تصدر عن قيادة الجيش في ما يتعلّق بالانتهاكات
الإسرائيلية تستند إلى حقائق ميدانية وإلى قرارات دولية تُعدّ واشنطن نفسها شريكة في صياغتها. لكن النقطة المستجدّة، وفق الأوساط نفسها، هي أن بعض الدوائر في واشنطن وتل أبيب تحاول تحميل الجيش ما يتجاوز دوره وحدوده، عبر دفعه إما إلى التشدّد في خطاب ضد "حزب الله"، أو إلى تخفيف لهجته تجاه
إسرائيل، وهو ما لا تستطيع القيادة العسكرية أن تقوم به من دون قرار سياسي لبناني جامع لا يبدو متوفرًا في ظل الانقسام الداخلي الحالي.
يضع هذا الواقع قائد الجيش أمام معادلة معقّدة. فمن جهة، تحتاج المؤسسة العسكرية إلى استمرار الدعم الخارجي، ولا سيما الأميركي، ومن جهة أخرى، تدرك القيادة أن ثقة اللبنانيين بها تقوم أيضًا على صورتها كمؤسسة وطنية تلتزم التعريف الدستوري والسياسي لإسرائيل كـ"عدو" وتنحاز إلى حماية السيادة، لا إلى تليين خطابها تحت وطأة أي ضغط سياسي خارجي. وبين هذين البعدين، تحاول اليرزة أن ترسم خط توازن دقيقًا، فلا تقطع الجسور مع الشريك الأميركي، ولا تسمح في الوقت نفسه بأن يُفهَم صمتها أو انكفاؤها نوعًا من التنازل عن الثوابت.
في هذا السياق، يأتي قرار إرجاء الزيارة كترجمة عملية لهذه الحسابات، بما لا يقطع الجسور مع
الأميركيين، ويترك الباب مفتوحًا أمام إعادة ترتيب الزيارة في توقيت أقلّ توترًا، يسمح بإعادة وضع العلاقة في إطارها التقليدي. ووفقًا للعارفين، فإنّ الأميركيين يعرفون قبل غيرهم أنّ إضعاف الجيش أو إدخاله في تجاذب حاد لن يكون في مصلحتهم على المدى المتوسط والبعيد، ولا سيما أنّ المؤسسة العسكرية هي آخر ما تبقّى من مؤسسات قادرة على حفظ الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي، وبالتالي أنّ أيّ هزّة تصيبها لا بدّ أن تنعكس مباشرة على الوضع الأمني في البلاد.
في حصيلة المشهد، يظهر إلغاء زيارة العماد رودولف هيكل إلى واشنطن كإشارة إضافية إلى ضيق هامش المناورة اللبناني في هذه المرحلة. فالجيش، الذي يجد نفسه بين متطلبات الشريك الأميركي وضغوط الجبهة الجنوبية وحساسيات الداخل، يحاول الحفاظ على موقعه كمؤسسة وطنية جامعة، بعيدًا عن الاصطفافات الحادة. أما واشنطن، فتستخدم توقيت الزيارات وطبيعة اللقاءات كأدوات ضغط سياسية، لكنها تدرك في الوقت نفسه حدود قدرتها على الذهاب بعيدًا في هذا الاتجاه، ما لم تُرد فتح الباب على سيناريوهات لا يمكن ضبطها بسهولة في لبنان.
وعليه، يبقى السؤال في المرحلة المقبلة مرتبطًا بما إذا كانت زيارة قائد الجيش ستُعاد برمجتها ضمن ظروف أوضح وأقل توترًا، أم أن الإرجاء الحالي سيشكّل بداية مقاربة جديدة أميركية لمسار الدعم العسكري للبنان.