في مصر، لم يعد "العائد المضمون" كما كان. أحمد سيد، موظف في إحدى المصالح الحكومية بالصعيد، يراجع رصيد حسابه قبل الخروج إلى عمله، ويقارن ما يدخل من عائد شهاداته بما اعتاد عليه سابقاً. وفي القاهرة، تجلس آية أحمد أمام دفتر مصروفاتها وتعيد حساب الشهر المقبل بدقة أكبر. قبل عامين باعت ما كانت تملكه من ذهب واتجهت إلى الشهادات البنكية مستفيدة من العائد المرتفع، لكن المعادلة تبدلت مع تراجع العائد وقفز أسعار المعدن الأصفر إلى مستويات تاريخية.
هذا التحول يضع الطبقة المتوسطة أمام سؤال واحد مع اقتراب 2026: أين تذهب المدخرات بعد خفض متتالٍ للفائدة وتراجع جاذبية الشهادات، وسط بدائل تتراوح بين الصناديق النقدية والأسهم والذهب والفضة؟
خلال 2025، خفّض
البنك المركزي أسعار الفائدة 7.25% على خمس مرات، لتصل إلى 20% للإيداع و21% للإقراض. وتراجعت أسعار العائد على الشهادات أكثر من مرة خلال العام لتتراوح حالياً بين 16% و18%. وفي المقابل، يقترب موعد استحقاق شهادات لأجل سنة بعائد ثابت يبلغ 23.5% يُصرف شهرياً و27% يُصرف في نهاية الأجل، مع حصيلة تتخطى تريليون جنيه في بنكي الأهلي ومصر، وسط تحفظ البنكين على طرح شهادات مماثلة بعائد مرتفع.
مصرفيون ومحللون ببنوك استثمار قدموا عبر “الشرق” نصائح للطبقة المتوسطة بشأن توجيه المدخرات في 2026 بين الشهادات وأذون الخزانة والصناديق والأسهم والعقارات والذهب والفضة. ويُنظر إلى العام المقبل بوصفه اختباراً صعباً لهذه الشريحة بعد تراجع عوائد الشهادات والودائع، في ظل محدودية خبرة كثيرين بأدوات بديلة.
عمرو الألفي، رئيس قطاع البحوث في “ثاندر” لتداول الأوراق المالية، ربط المفاضلة بين الشهادات البنكية والصناديق النقدية بدرجة تقبل المخاطر، مع ترجيح أن تكون الصناديق النقدية خياراً أفضل في الفترة المقبلة لأنها تستثمر في أذون وسندات الخزانة ذات العوائد المرتفعة الحالية، ما يمنحها قدرة أكبر على الحفاظ على عائد مرتفع لفترة أطول حتى مع بدء دورة خفض الفائدة. وأشار إلى أن عائد الصناديق النقدية لا يتراجع بالسرعة نفسها التي تتراجع بها الشهادات، لأن جزءاً كبيراً من استثماراتها مرتبط بأدوات دين قائمة حتى تاريخ استحقاقها.
وخلال 16 شهراً، جمع البنكان الأهلي ومصر حصيلة من طرح شهادات لأجل عام واحد بعائد 23.5% شهرياً و27% بنهاية الأجل بلغت نحو 1.3 تريليون جنيه، منذ 4 كانون الثاني 2024 حتى وقف العمل بها في 23 نيسان 2025، وهو ما دفع جزءاً من مدخرات العملاء في البنوك الخاصة إلى التحول نحو البنكين للاستفادة من أعلى عائد مطروح وقتها. ويبلغ رصيد ودائع العملاء في البنكين نحو 9 تريليونات جنيه، بما يعادل 60% من إجمالي ودائع العملاء في بنوك مصر البالغة نحو 15.32 تريليون جنيه بنهاية أيلول الماضي.
في الأسهم، يرى هاني جنينة، رئيس قسم البحوث في “الأهلي فاروس”، أن الأسهم
المصرية قد تكون “الخيار الاستثماري الأمثل” في 2026، معتبراً أن السوق مرت بمرحلة استقرار واضحة في 2025 قد يعقبها تعافٍ وصعود تدريجي بدأت ملامحه منذ منتصف 2025. ولفت إلى أن السوق أنهت إلى حد كبير مرحلة التصحيح، وتتحرك ضمن نطاقات تعكس توازناً نسبياً بين
العرض والطلب، ما يمهد لإعادة تقييم خلال النصف الأول من العام المقبل بدعم تحسن التوقعات الاقتصادية واستيعاب التغيرات النقدية والمالية. وسجل المؤشر
الرئيسي للبورصة المصرية مكاسب بنحو 44% منذ بداية العام، فيما بلغت مكاسب بعض الأسهم نحو 100% خلال العام المنقضي.
أما
الذهب، فيرجّح جنينة استمرار الطفرات السعرية خلال العام المقبل سواء في الأسعار الفورية أو عبر وثائق صناديق الاستثمار في الذهب، معتبراً أنه يبقى أداة تحوط في ظل عدم اليقين العالمي وتقلبات الأسواق الدولية، وداعياً إلى تنويع المحافظ بين الأسهم والذهب، على أن تأتي الشهادات في المرتبة الثالثة وفق رؤيته. وحقق الذهب في مصر مستويات تاريخية خلال 2025 بارتفاع بنحو 55% مقارنة بنهاية العام الماضي، بدعم الارتفاع العالمي المتأثر بالتوترات الجيوسياسية وخفض الفيدرالي الأميركي للفائدة. وسجلت الأونصة أعلى مستوى فوق 4500 دولار، فيما ارتفع سعر غرام الذهب عيار 21 بأكثر من 2000 جنيه منذ بداية العام بنمو سنوي 69%.
وعلى الضفة الأكثر تحفظاً، ترى سهر الدماطي، نائبة رئيس بنك مصر الأسبق، أن شهادات الادخار وأذون الخزانة ستظل “الخيار الأول” للطبقة المتوسطة بحكم طبيعتها التي لا تفضل المخاطرة، إذ تبحث عن عائد شهري أو ربع سنوي منتظم يساعدها على مواجهة تكاليف المعيشة، وهي ميزة تجدها في الشهادات تحديداً مع محدودية الخبرة ببدائل أخرى. وفي هذا الإطار، تُعرض أذون الخزانة كأداة دين حكومية قصيرة الأجل بين 3 أشهر و12 شهراً بعائد يُصرف في نهاية المدة، ويُنظر إلى عائدها على أنه أعلى نسبياً، رغم أن قِصر آجالها يجعل المستثمرين عرضة لتراجع العائد عند الاستحقاق.
وفي 2025، باعت مصر أذون خزانة تجاوزت قيمتها 136 مليار جنيه بزيادة 81% عن المستهدف البالغ 75 ملياراً، مع تراجع متوسط العائد على أذون الخزانة لأجل 9 أشهر إلى نحو 25.51% من 26.04%، وفق بيانات “المركزي”. وبرأي الألفي، ستظل شريحة كبيرة تفضل الشهادات باعتبارها الأداة الأقل مخاطرة حتى لو جاء ذلك على حساب تراجع العائد المتوقع مستقبلاً. وبدوره قال محمد عبد العال، الخبير المصرفي، إن أغلب أموال الطبقة المتوسطة ستذهب إلى الشهادات ولن تفضل المخاطرة بالاستثمار في الذهب والفضة أو البورصة، مع اعتبار أذون الخزانة خياراً بعائد “مجزي وآمن” لكن يعيبها قصر المدة.
وفي
المعادن الثمينة والعقارات، يتوقع أيمن ياسين، رئيس مجموعة “بيزنس كوميونتي”، أن يكون الاستثمار في الذهب والفضة “الأفضل” وسط محدودية الأدوات البديلة، مع إشارته إلى أن عوائد الشهادات الحالية غير مرضية لكثيرين، لكن شريحة واسعة ستظل تتمسك بها تحت ضغط الحاجة إلى السيولة من دون مخاطر.
بين أحمد وآية، لا رغبة في “مغامرة” بقدر ما هي محاولة لإيجاد توازن صعب بين الأمان والعائد. فالشهادات لم تعد وحدها إجابة كافية، والمخاطرة ليست خياراً مريحاً للجميع، ومع ذلك تتشكل خريطة جديدة لمدخرات الطبقة المتوسطة في مصر مع 2026، قد تتوزع بين شهادة أو صندوق أو أسهم أو ذهب. (الشرق)