قبل أيام قليلة فقط، كان الانطباع السائد أنّ الانتخابات البلدية والاختيارية لن تحصل في مواعيدها، وأنّ اللبنانيّين قبل الحكومة، غير جاهزين لتنظيمها، باعتبار أنّ البلاد لم تدخل عمليًا في أجوائها، مع رصد "تفاوت" في الحماسة إزاءها بين مختلف المناطق، حتى إنّه ليس سرًا أنّ هناك من راهن على "كلمة سرّ" تؤدي إلى تأجيلها في الربع الساعة الأخير، وسط "تقاذف" للكرة في هذا السياق بين الحكومة ومجلس النواب.
قد يكون لهذا الانطباع ما يفسّره ويبرّره، انطلاقًا من الظروف الاستثنائية وربما الدقيقة التي يمرّ بها البلد، على وقع التأزّم السياسي والاحتقان الطائفي والتوتر الأمني، خصوصًا بعد الحرب
الإسرائيلية على
لبنان، وغياب الضمانات بعدم حصول أيّ خروقات تعكّر صفو الاستحقاق
الديمقراطي، فضلاً عن حالة الضبابية التي أحاطت به حتى اللحظة الأخيرة، في ظلّ الشكوك بإنجازه، وهي شكوك لم تنتهِ للمفارقة بعد، ولو انخفضت أسهمها.
لكن، خلافًا لهذا الانطباع، مرّت الجولة الأولى من الانتخابات البلدية والاختيارية، في محافظة
جبل لبنان، بسلاسةٍ وسلام، بدءًا من عملية الاقتراع، وصولاً إلى الفرز وإعلان النتائج، على الرغم من بعض الإشكالات اللوجستية والأمنية التي سُجّلت على هامشها، والتي لم تخرج عمومًا عن سقف التوقعات، في ضوء السياق السياسي العام، فهل يمكن القول إنّ الحكومة نجحت في "الاختبار"، وكيف ينعكس ذلك على
المحطات الانتخابية اللاحقة؟
ثغرات ومخالفات..
قبل الوصول إلى خلاصات، لا بدّ من التوقف عند الملاحظات التي سُجّلت على سير العملية الانتخابية في مختلف أقضية ومناطق محافظة جبل لبنان، أو الشكاوى التي رُصِدت، سواء التي تلقّتها
وزارة الداخلية بشكل مباشر، أو التي أثارتها منظمات
المجتمع المدني، وعلى رأسها الجمعية
اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات (لادي)، التي واكبت اليوم الانتخابي
الطويل، من خلال مراقبين ثابتين ومتجوّلين انتشروا في مختلف مراكز الاقتراع.
وعلى الرغم من أنّ
وزير الداخلية أحمد
الحجار أكّد رضاه الكامل على العملية الانتخابية، فإنّ المفارقة تمثّلت في أنّ الشكوى الأساسيّة التي تلقّتها الوزارة من جمعية "لادي" مثلاً، تمثّلت في عدم إلمام هيئات قلم الاقتراع، ولا سيما رؤساء الأقلام، بالقانون الانتخابي، وهو ما تسبّب بفوضى وإشكالات متنقلة، وهو ما عزاه البعض إلى عدم خضوع هؤلاء للتدريبات اللازمة قبل اليوم الانتخابي، بالنظر إلى الظروف المعقّدة التي أحاطت بالاستحقاق منذ البدء.
وإلى جانب هذه "الثغرة" إن صحّ التعبير، تفاوتت المخالفات التي سجّلت في اليوم الانتخابي، بين خرق الصمت الانتخابي، خصوصًا عبر
وسائل الإعلام، التي نقلت تصريحات لسياسيين ومرشحين شكّلت نوعًا من الدعاية الانتخابية، وكذلك خرق سرية الاقتراع، مع تسجيل حالات "فاضحة"، كمرافقة مندوبين للناخبين أثناء اقتراعهم، أو التصويت خارج المعزل، فضلاً عن تثبيت المعزل في بعض الأقلام بطريقة لا تضمن أيّ سرية أو خصوصية.
نجاح وتحديات..
على أهميتها، يقول العارفون إنّ هذه الخروقات التي سجّلتها الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات وغيرها، تبقى أدنى من سقف التوقعات، فمثل هذه الحالات لطالما رافقت الانتخابات البلدية، بل إنّ عدم تسجيلها بالمطلق كان ليشكّل المفاجأة لا العكس، خصوصًا على مستوى الصمت الانتخابي الذي يشكّل "معضلة إعلامية" يصعب تجاوزها، علمًا أنّ المندوبين والناخبين هم في كثير من الأحيان، أبناء عائلة واحدة، بالنظر إلى الطابع المحلي للاستحقاق.
من هنا، يشدّد هؤلاء على أنّ مجرد حصول الانتخابات في جولتها الأولى بهذه السلاسة، إن صحّ التعبير، يشكّل نجاحًا تنظيميًا يسجّل للحكومة والعهد، ولوزارة الداخلية تحديدًا، بعدما كان الرهان على عجزها عن إنجاز الاستحقاق، علمًا أنّ نسب الاقتراع أيضًا جاءت مقبولة نسبيًا، مقارنة مع النسب التاريخية في استحقاقات مماثلة، من دون أن ننسى أنّ ظروف هذه الانتخابات تختلف عن ظروف أيّ انتخابات أخرى، سابقة أو لاحقة.
لكنّ هذا النجاح "التنظيمي" يبقى غير مكتمل، بانتظار الجولات المقبلة من الانتخابات في الأسابيع الثلاثة المقبلة، علمًا أنّ التحديات على عاتق الوزارة باتت اليوم أكبر، أولاً مع شعور الناس بالجدّية، ما قد ينعكس ارتفاعًا في مستويات الحماسة التي قد تتصاعد تدريجيًا في المرحلة المقبلة، وثانيًا مع بقاء بعض النقاط الحسّاسة والعالقة، خصوصًا على مستوى انتخابات
بيروت العالقة، وانتخابات الجنوب، في ظلّ الهواجس الأمنية المشروعة.
لعلّ أهمية الانتخابات البلدية والاختيارية أنّها الأولى منذ تسع سنوات، بعد ثلاث سنوات من التمديد المستمرّ، وأنّها الأولى أيضًا منذ الانهيار المالي والاقتصادي في العام 2019، الذي انعكس على واقع البلديات في الكثير من المناطق، فضلاً عن كونها الأولى في
العهد الجديد، وبعد الحرب الإسرائيلية الدموية التي شهدها لبنان أخيرًا. لكنّ العبرة تبقى في الخواتيم، فهل تفضي فعلاً إلى مجالس بلدية منتجة، تضع الإنماء أولاً، وتنهي حالة الشلل القائمة؟!