في خطوة تهدف إلى تعزيز الوعي الثقافي والتاريخي، فتحت المراكز التراثية في لبنان أبوابها مجانًا أمام الزوار بمناسبة يوم التراث العالمي، الذي يُحتفى به سنويًا في 18 نيسان. هذه المبادرة، التي أطلقتها وزارة الثقافة بالتعاون مع المديرية العامة للآثار، جاءت لتذكير اللبنانيين بأهمية الإرث المعماري والثقافي المتجذر في ربوع البلاد. وفي إطار مشاركة وزارة الثقافة- المديرية العامة للآثار في إحياء هذه المناسبة وتشجيعاً للتعرّف إلى الترات الثقافي اللبناني، تفتح المتاحف والمواقع الأثرية التابعة للوزارة في كل المناطق اللبنانية أمام الزوار مع إعفاء من رسم الدخول أيام الأربعاء والخميس والجمعة في 14-15-16 من الشهر الحالي، وذلك ضمن الدوام الرسمي.
خلال الحرب
الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، لم تسلم المواقع الثقافية والتراثية من الاستهداف، في انتهاك صارخ لكل المعاهدات الدولية التي تضمن حماية التراث الإنساني. اليوم، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، لا بد من وقفة تأمل واستذكار لما جرى، ليس فقط لتوثيق الخسائر، بل للدعوة إلى تحرك محلي ودولي يحمي هذه الكنوز من أي تهديد مستقبلي. كما أن فتح أبواب هذه المواقع مجانًا أمام الجمهور، بعد ترميمها، يجب أن يكون جزءًا من عملية إعادة الاعتبار لها، وتأكيدًا على أن الثقافة أقوى من الحرب.
ففي تصعيد غير مسبوق، لم تسلم المعالم الأثرية اللبنانية من
الغارات الإسرائيلية التي طالت مدنًا وقرى عدّة، مقتربة بشكل خطير من مواقع مسجلة على لائحة التراث العالمي. من
بعلبك إلى صور والنبطية، كانت تقف الحجارة الشاهدة على التاريخ مهدّدة بالاندثار تحت وقع القصف. في بعلبك، سقط صاروخ على مقربة من معبد جوبيتر الشهير، مستهدفًا "مبنى المنشية" العثماني، ما أثار مخاوف كبيرة من أضرار قد تصيب القلعة المُدرجة منذ 1984 ضمن التراث العالمي لليونسكو. هذا القصف دفع
وزير الثقافة السابق محمد المرتضى إلى دعوة عاجلة للمنظمة الدولية للتدخل لحماية ما تبقّى من إرث حضاري مهدّد.
اليونسكو، من جهتها، ذكّرت بواجب حماية الممتلكات الثقافية خلال النزاعات المسلحة، وفق اتفاقيتي 1954 (لاهاي) و1972، وأعلنت عقد اجتماع طارئ لمناقشة تطورات الوضع في لبنان.
رئيس الحكومة السابق
نجيب ميقاتي وصف يومها ما يحدث بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، فيما رفعت لجنة مهرجانات بعلبك الصوت في رسالة مفتوحة حذّرت فيها من أضرار لحقت بـ"ثكنة غورو"، أحد المعالم المحيطة بالقلعة، نتيجة القصف والدخان والاهتزازات التي تهدد الأحجار القديمة بالتصدع.
علماء الاثار اكدوا أن القصف لم يطل مباشرة مواقع اثرية، لكنه يهددها من خلال الارتجاجات الأرضية الناتجة عن الانفجارات، مشيرين إلى أن "البناء الروماني مقاوم للزلازل، لكنه عاجز أمام غارات جوية بهذا الحجم". في مدينة صور، التي تشتهر بتاريخها الفينيقي والآثار الرومانية، تعرضت مناطق أثرية محمية لقصف قريب، يهدد آثارًا لا تزال مدفونة تحت الأرض ولم تُكتشف بعد، في وقت باتت المدينة خلال الحرب أشبه بمدينة أشباح، مع تدمير واسع ونزوح آلاف السكان. ولم تسلم الأسواق القديمة والمناطق التراثية الأخرى. في
النبطية، اندلعت حرائق في السوق التاريخي الذي كان يحتفظ بمعالم عمرانية مميزة، بينما طالت الغارات مواقع دينية تعود لمئات السنين، مثل مقام
بنيامين في محيبيب، وعدد من المساجد والكنائس، في انتهاك واضح للمواثيق الدولية.
وقالت
الأمم المتحدة إن الهجمات تُعرض مواقع تراثية عمرها آلاف السنين للخطر، فيما يعكف فريق من الخبراء اللبنانيين على توثيق الأضرار عبر صور الأقمار الصناعية والمصادر الميدانية، رغم صعوبة الوصول إلى أماكن كثيرة.
أكثر من رسالة لبنانية وصلت إلى اليونسكو، محذرة من أن الاعتداءات لا تدمّر المباني فقط، بل تمحو الذاكرة الثقافية لشعب بأكمله. وأشارت إلى استهداف واسع طال مناطق زراعية مرتبطة بثقافة الإنسان اللبناني، كحقول
الزيتون والخروب والعنب، التي تشكّل جزءًا من المشهد الثقافي والتاريخي في الجنوب والبقاع.
(المناطق التاريخية المتأثرة بضربات إسرائيل على لبنان في 2024)
ومن أبرز ما كشفته الرسائل، احتلال الجيش
الإسرائيلي لقلعة شمع، واصطحاب أحد علماء الآثار الإسرائيليين بهدف التلاعب بالرواية التاريخية للمنطقة. ويذكَر بأن لبنان قد وقّع على اتفاقية لاهاي وبروتوكولاتها، ويطالب بحماية "معززة" لـ34 موقعًا ثقافيًا.
وسط هذه المعاناة، يتمسك لبنان بخيار القانون الدولي، ويسعى لتأمين حماية فاعلة لإرثه الثقافي، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية والذاكرة الإنسانية المشتركة.