منذ بدء التحضير للانتخابات البلدية والاختيارية، شكّلت العاصمة
بيروت محور اهتمام الكثير من المتابعين، للعديد من الأسباب والاعتبارات، كان على رأسها الخوف على المناصفة في
المجلس البلدي، والخشية من أن تكرّس "لونًا طائفيًا واحدًا"، بما يطيح بمبادئ التنوّع والعيش المشترك، وهو ما دفع بتقديم العديد من مشاريع القوانين لتعديل قانون الانتخاب، بما يتيح "فرض" المناصفة قانونيًا، عبر اللوائح المغلقة أو غيرها.
وعلى الرغم من انطباعٍ ساد بأنّ انتخابات بيروت قد تؤجَّل أو تُلغى، شهد الأسبوع الأخير قبل يوم الانتخابات "حماوة" انتخابية لافتة، ترجم بعدد اللوائح التي اختارت أن تخوض غمار المعركة، وإن بقيت اللائحة المدعومة من الأحزاب الكبرى في الصدارة، بعدما نجحت "الأضداد" إن صح التعبير، بما في ذلك "
حزب الله" و"
القوات اللبنانية" مثلاً تحت عنوان "الحفاظ على المناصفة"، في مقابل زخم مثّلته لائحة "بيروت مدينتي" مثلاً.
وبمعزل عن النتائج التي أفرزتها الانتخابات، فإنّ نسبة الاقتراع الضئيلة شكّلت "الحدث الحقيقي" في بيروت، وإن كانت أعلى من تلك التي سُجّلت في العام 2016، تاريخ آخر انتخابات بلدية، فلماذا أحجم أهل بيروت عن المشاركة رغم كلّ هذه الحماوة، ورغم كلّ النداءات التي استمرّت حتى خلال اليوم الانتخابي، مع خرق كثير من السياسيين للصمت الانتخابي، في محاولة لـ"تحفيز" الناس لممارسة واجبهم الانتخابيّ بالتي هي أحسن؟!
يوم أحد عادي رغم كلّ شيء!
عشيّة
الانتخابات البلدية في بيروت، كما في اليوم الانتخابي، "استنفر" السياسيون من أجل دعوة الناخبين في العاصمة إلى المشاركة في عملية الاقتراع، فخصّص رئيس الحكومة نواف سلام مثلاً بيروت بفيديو خاص يوم السبت، قبل أن يحرص على أن يكون من أول المقترعين صبيحة الأحد، ليمضي نهاره متنقّلاً بين مراكز الاقتراع، ووسائل الإعلام، داعيًا ناخبي بيروت إلى المشاركة، مع التزامه بمبدأ "الحياد" على مستوى الخيارات
الانتخابية.
وعلى غرار ما فعل رئيس الحكومة، "استنفر" السياسيون من مختلف الأحزاب والقوى السياسية، وكذلك
المجتمع المدني، لدعوة الناخبين إلى النزول إلى مراكز الاقتراع، واختيار اللائحة التي تعبّر عنهم، وتضمن المناصفة، مع تقاطع معظمهم على الدعوة إلى رفض التشطيب، وقد شارك في هذه الدعوات "الخصوم" في السياسة، من "
التيار الوطني الحر" إلى "القوات
اللبنانية" و"
الكتائب اللبنانية"، مرورًا بـ"حزب الله" و"
حركة أمل" وغيرهم.
لكنّ كلّ هذه الدعوات والنداءات لا يبدو أنها وجدت "الصدى"، حيث سجّلت نسبة الاقتراع في بيروت أدنى مستوياتها، وإن ارتفعت بنحو واحد في المئة عن النسبة المسجّلة في العام 2016، ليبدو اليوم الانتخابي المفترض في بيروت، يوم أحد عاديًا، بل ربما أقلّ من ذلك، مع تفضيل الكثيرين البقاء في منازلهم، علمًا أنّ هذه "البرودة" ترجمت "رتابة" في مراكز الاقتراع، مع عدم تسجيل أيّ إشكالات تُذكَر كالتي حصلت في المناطق الأخرى.
نسبة الاقتراع.. "عادية"؟!
يحاول البعض أن يقلّل من أهمية نسبة الاقتراع الضئيلة في بيروت، بمعزل عن أسبابها ودوافعها، بالإشارة إلى أنّ الانتخابات البلدية في بيروت "تاريخيًا" لا تستقطب الاهتمام، للكثير من الأسباب والاعتبارات، من بينها ربما الصلاحيات "المحدودة" للمجلس البلدي مقارنة بالمحافظ مثلاً، ومنها غياب "الحماسة" التي تسجّل في الانتخابات النيابية مثلاً، علمًا أنّ هناك من ذهب إلى مقارنة "في غير محلّها" مع الأرقام التي سجّلتها انتخابات بيروت النيابية في العام 2022.
وإذا كان هناك من يضيف إلى هذه الأسباب، "اعتكاف"
تيار "
المستقبل" بعد إعلان رئيسه
سعد الحريري قبل فترة أنّه "غير معني" بالاستحقاق، ترشيحًا أو تأييدًا، وهو الذي لطالما كان "الرقم الصعب" في المعادلة، إن صحّ التعبير، منذ أيام الرئيس الشهيد
رفيق الحريري، فإنّ البعض الآخر يشدّد على أنّ نسبة الاقتراع الضئيلة تشكّل وحدها "رسالة سلبيّة" إلى جميع
القوى السياسية، عنوانها "رفض" الطريقة التي أديرت فيها الانتخابات من الأساس.
ولعلّ هذه الرسالة "موجّهة" للأحزاب الكبرى التي قفزت فوق كلّ خلافاتها، مكرّسة مبدأ "المصلحة فوق كلّ اعتبار"، بعيدًا عن كلّ منطق يمكن الاعتداد به، لكنّها موجّهة أيضًا للقوى
المعارضة، التي عجزت عن إقناع الناس ربما بمشروع "بديل" يمكن البناء عليه، أو ربما بمشروع "تغييري" يبشّر بالخير، علمًا أنّ هناك من يرى في ذلك رسالة موجّهة إلى ما سُمّيت بـ"قوى التغيير"، والتي كانت بيروت تحديدًا "بوابتها" إلى
البرلمان.
في النتيجة، تقول نسبة الاقتراع في بيروت الكثير، كشوارع بيروت وأزقّتها التي لم تشهد في يوم انتخابي مفترض، ما يوحي بحصول انتخابات أصلاً، حتى لو كانت هذه النسبة أعلى بنيّف من تلك التي سجّلت في انتخابات 2016. هي تقول على الأقلّ، إنّ لا شيء تغيّر بالنسبة لأهل بيروت، رغم كلّ ما حصل طيلة هذه السنوات التسع، وربما إنّ "لا أمل" لديها، لا بالقوى والأحزاب الأساسية الحاكمة، ولا بمن يطرحون نفسهم "بدلاء"، وهنا بيت القصيد!