يبدو أن المشهد الإقليمي مقبل على تحولات كبيرة، حيث تسعى سوريا للاستحواذ على اهتمام العالمين العربي والدولي، مستفيدة من أجواء التهدئة الإقليمية، بينما يجد
لبنان نفسه أمام تحدي اللحاق بهذا المسار أو مواجهة خطر التهميش والعزلة، في ظل تسويات قد ترسم في غيابه.
وأكد الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع أن المرحلة الراهنة تفرض تجاوز دوامة التصعيد المستمر بين سوريا وإسرائيل، مشددًا على أن استمرار حالة العداء لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين. وأوضح الشرع أن مستقبل المنطقة مرهون بإرساء قواعد أمنية جديدة تقوم على الحوار والاحترام المتبادل، بدلًا من التهديدات والخوف. كما شدد على ضرورة تبني مقاربة براغماتية تراعي المصالح الإقليمية المشتركة، وتتجاوز الحسابات الضيقة.ورغم تأكيده أن الحديث عن تطبيع العلاقات مع
إسرائيل سابق لأوانه، أبدى الشرع استعداد سوريا للانخراط في مفاوضات مستقبلية، بشرط أن تستند إلى مبادئ القانون الدولي، وتحترم سيادة سوريا وحقوقها الوطنية. وأضاف أن السلام الحقيقي لا يمكن تحقيقه عبر الإملاءات أو التبعية، بل عبر الاحترام المتبادل، معلنًا انفتاح دمشق على حوار مباشر مع
الرئيس دونالد ترامب، شريطة وجود وسيط نزيه وشفاف يضمن مصالح الأطراف كافة، ويساعد في بناء أرضية تفاهمات كبرى.
هذا الانفتاح يعكس توجها سورياً جديداً نحو إعادة التموضع الإقليمي والدولي، عبر التركيز على الملفات الإنسانية والتنموية كمدخل لتعزيز الاستقرار. وفي موازاة هذه التطورات، يثير الحديث عن إمكانيات فتح قنوات حوار سوري - إسرائيلي قلقاً متزايداً في لبنان، خاصة في ظل المخاوف من أن يؤدي أي تقارب محتمل بين دمشق وتل أبيب إلى تغييرات في المعادلات الإقليمية، قد تمس مباشرة بمصالح لبنان وأمنه الاستراتيجي.
وتخشى أوساط لبنانية أن يؤدي أي تفاهم سوري - إسرائيلي، حتى ولو كان في إطار اتفاق "عدم اعتداء" أو تفاهمات محدودة، إلى تنازلات إقليمية قد تستخدم كورقة ضغط على
بيروت، خاصة في ملفات حساسة مثل ترسيم الحدود مع سوريا، أو تقليص دور
حزب الله في المنطقة. كما تخشى أن يتم تغييب لبنان عن طاولة التفاوض، بما قد يفرض عليه أمراً واقعاً جديداً دون أن يكون له دور في رسم ملامح هذه التسويات.
على الصعيد الأميركي، دعا المبعوث الأميركي إلى دمشق توم باراك، إلى إرساء اتفاق "عدم اعتداء" بين سوريا وإسرائيل كخطوة أولى لخفض التصعيد وفتح الطريق أمام مفاوضات أوسع تشمل
القضايا الكبرى، وعلى رأسها قضية الحدود. باراك الذي يعتزم مرافقة المبعوثة الأميركية
مورغان أورتاغوس في جولتها المقبلة إلى لبنان وإسرائيل، يؤكد الجهود الأميركية الحثيثة لدفع مسار التهدئة الإقليمية إلى الأمام.
ولم تمر هذه التحولات في الموقف السوري مرور الكرام على الساحة الإقليمية والدولية. ففي الوقت الذي تعيد فيه دمشق صياغة موقعها في المشهد الإقليمي، تتصاعد التحذيرات الغربية من أن لبنان قد يجد نفسه معزولا إذا لم يواكب هذه التغيرات، مما يعزز موقع سوريا كمستفيد رئيسي من الانفتاح الإقليمي والدولي. وتشير تقارير مراكز أبحاث إسرائيلية، مثل معهد الدراسات الأمنية القومية (INSS)، إلى أن ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا بطريقة تحد من حرية حركة حزب الله وتقلص عمقه الاستراتيجي في سوريا يشكل هدفا استراتيجيا لإسرائيل، بالتوازي مع مساعٍ لإعادة تصنيف مزارع شبعا وتلال كفرشوبا قانونيا، أو فرض أمر واقع جديد عبر اتفاقات غير معلنة.
وفي هذا السياق، تؤكد التقارير الغربية أن أي دعم مالي أو استثمارات دولية لإعادة إعمار لبنان يبقى مشروطا بتحقيق تقدم في العلاقات بين بيروت ودمشق، وضبط الوضع الداخلي اللبناني وحصر السلاح ما يعكس قناعة دولية بأن تجاوز لبنان أزماته يستلزم حلحلة الملفات العالقة مع سوريا.
وضمن هذا الإطار، استقبل رئيس هيئة الأركان
السورية اللواء علي النعسان، وفدا عسكريا وأمنيا لبنانيا رفيعا في دمشق، حيث ناقش الجانبان سبل تعزيز التعاون الأمني، وتأمين الحدود المشتركة، ومواجهة التحديات الأمنية التي تهدد استقرار المنطقة، علماً أن باريس وفي سياق جدية مساعيها لدعم لبنان في ملف ترسيم الحدود، لا سيما في ضوء التطورات المتسارعة في العلاقة بين دمشق وباريس سلمت لبنان نسخة من وثائق وخرائط الأرشيف الفرنسي الخاصة بالحدود
اللبنانية - السورية، استنادًا إلى تعهد سابق من
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرئيس
جوزاف عون، في حين ان الدعم
البريطاني، الذي يتجلى في تزويد الجيش بأبراج مراقبة حديثة، يعكس اهتمام القوى الغربية بضمان أمن الحدود ومكافحة التهريب بشكل عملي وفعال.
وتشدد أوساط سياسية على أن تفعيل التنسيق الأمني هو جزء من رؤية أكبر لاستقرار المنطقة من خلال تقوية سيادة سوريا ولبنان على حدودهما، وإبعاد تأثير الجماعات المسلحة التي تستفيد من الفوضى الحدودية. وفي هذا السياق، تعتبر الأوساط أن ضبط الحدود وترسيمها مشروع استراتيجي يعكس رغبة في إعادة ترتيب الأوضاع السياسية والاقتصادية، وتقديم ضمانات أمنية للدولتين.