جان إيف لودريان في
بيروت. قد لا يكون هذا العنوان جديدًا، فالرجل بات "ضيفًا دائمًا" على هذا البلد في السنوات الأخيرة، خصوصًا في مرحلة الفراغ الرئاسي، التي أطلقت فيها فرنسا مبادرتها الشهيرة، قبل أن تقود ما اصطلح على وصفها بـ"المجموعة الخماسية" إلى جانب
الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية
السعودية ودولة قطر وجمهورية مصر، وتحاول أن تلعب دور "الوصل والتنسيق" بين كلّ هذه الدول، واللبنانيين.
هكذا، أمضى لودريان فترات طويلة في
لبنان، فكان يذهب ويأتي، وعندما كان يزور لبنان، كان يلتقي الجميع تقريبًا، يناقشهم بالمبادرات ويطرح عليهم الأفكار، ولو أنّه لم يكن يصل في غالب الأحيان إلى "حلول حقيقيّة"، خصوصًا عندما كان يطرح فكرة الحوار، التي كانت شريحة واسعة ترفضها، فوُضِع الرجل، ومعه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في قفص الاتهام، تارةً بالانحياز لطرف، وطورًا بمحاولة فرض أجندات، وغير ذلك.
لكنّ الرجل كان يدافع عن نفسه، وعن وساطته، ويؤكد أنّ فرنسا تقف على مسافة واحدة من الجميع، وأنّ كلّ ما تريده هو أنّ يتّفق اللبنانيون في ما بينهم، ليتجاوزوا أزماتهم، أزماتٌ لا يُعتقَد أنّها انتهت فصولاً بانتهاء الفراغ الرئاسي وانتخاب رئيس للجمهورية مطلع العام الجاري، وهو ما يرى كثيرون أنّه ما دفع لودريان إلى العودة مرّة أخرى، فأيّ "رسائل" حملها إلى المسؤولين اللبنانيين، وما المختلف فيها عمّا كان يحمله إليهم في السابق؟!
"ساعدوا أنفسكم لنساعدكم"
يذكر اللبنانيون جيّدًا عبارة "ساعدوا أنفسكم لنساعدكم" التي تحوّلت إلى "شعار ثابت" يكرّره الموفد الفرنسي جان إيف لودريان في كلّ زياراته إلى لبنان، منذ مرحلة ما بعد انفجار مرفأ بيروت، وهي عبارة كان يقصد منها أنّ
الكرة في ملعب اللبنانيين، الذين تقع على عاتقهم مسؤولية جوهرية لتجاوز مشاكلهم، بما يتيح للمجتمع الدولي، وفرنسا من ضمنه بل في مقدّمته، لمدّ يد العون إليهم، ومساعدتهم على النهوض على مختلف المستويات.
قالها لودريان بعد انفجار مرفأ بيروت، وبعد الانهيار المالي وتدهور الوضع الاقتصادي، داعيًا المسؤولين اللبنانيين إلى المباشرة بورشة إصلاحات، تسمح للمجتمع الدولي بالتدخل، دون خوف من الفساد والمحسوبيّات، وقالها خلال مرحلة الفراغ الرئاسي، داعيًا المسؤولين اللبنانيين إلى التوافق والتفاهم فيما بينهم على انتخاب رئيس للجمهورية ينهي حالة الفراغ، ويسمح بانطلاقة جديدة للبنان، وقالها في مرحلة "الإسناد" وما بعدها أيضًا.
وقد تكون هذه العبارة هي "نقطة التقاطع" بين كلّ الزيارات السابقة وهذه الزيارة، فلودريان كرّرها بشكل أو بآخر خلال لقاءاته مع المسؤولين، حين تحدّث عن "فرصة فريدة" أمامهم، ودعاهم إلى الإسراع في إقرار القوانين الإصلاحيّة المطلوبة، على أن تتولّى فرنسا مهمّة دعوة المجتمع الدولي إلى مؤتمر لدعم لبنان وحشد الدول المانحة، "فور إقرار تلك القوانين"، وهو ما يصبّ في الخانة نفسها التي يعيدها دومًا: الكرة في ملعب اللبنانيين.
فرنسا "في صفّ" لبنان؟
لكن، أبعد من هذه الرسالة المكرّرة، حملت زيارة لودريان، بحسب ما سُرّب من أجوائها، رسالة "دعم" فرنسية متجدّدة للبنان، تجلّت في المواقف التي أطلقها الموفد الفرنسي، على قلّتها، والتي تقاطعت عند تأكيد الدعم الفرنسي الثابت للبنان، ولكن أيضًا في المواقف "المنسوبة إليه"، إن صحّ التعبير، كما فعل
رئيس مجلس النواب نبيه بري عندما شدّد على أهمية الجهد الفرنسيّ لمؤازرة لبنان في "التصدّي للمؤامرة التي تُحاك ضدّ القوّة الدولية للنيل منها ومن لبنان وجنوبه".
هنا، يتحدّث العارفون عن مجموعة من العناوين التي حملتها الزيارة، والتي تؤكد مقاربتها وقوف فرنسا "في صفّ" لبنان بصورة أو بأخرى، ومنها ما يتعلق بما ذكره
بري عن التجديد لـ"اليونيفيل"، حيث تؤكد الأوساط السياسية أنّ لبنان الرسمي يستند إلى "جرعة دعم" فرنسية ضدّ كلّ ما يُحكى عن توجّه أميركي إسرائيلي لإنهاء تفويض قوة
الأمم المتحدة المؤقتة في جنوب لبنان، أو ربما فرض "أمر واقع" على مهامها وصلاحياتها.
ولعلّ الدعم الفرنسي يظهر أيضًا بالموقف الفرنسي من الانتهاكات
الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار، علمًا أنّ السلطات
الفرنسية تدعو باستمرار تل أبيب إلى الانسحاب من الأراضي
اللبنانية التي تحتلّها، وهو ما كرّرته قبل أيام، حين أدانت الهجمات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية، ودعت جميع الأطراف إلى احترام اتفاق وقف إطلاق النار، في موقف بدا "متناغمًا" مع الموقف اللبناني الرسمي، في مواجهة المواقف الإسرائيلية.
لعلّ لودريان أراد، من خلال جولته المتجدّدة في لبنان، القول إنّ فرنسا لا تزال معنيّة بالوضع فيه، وإنّها داعمة له في كلّ الاستحقاقات المقبلة، من إنهاء الحرب، إلى التجديد لليونيفيل، وصولاً إلى الإصلاحات وإعادة الإعمار. لكنّ الأكيد أنّه أراد أيضًا أن يقول مرّة أخرى، إنّ الكرة تبقى في ملعب اللبنانيين بالدرجة الأولى، الذين ينبغي عليهم الإسراع بتنفيذ ما يتوجّب عليهم، ولعلّ هذه الرسالة ظهرت خلف كلماته، ولا سيما قوله إنّهم لا يملكون "ترف الوقت"!