في لحظةٍ حَرِجة على مستوى المنطقة بأسرها، على وقع العدوان الإسرائيلي على إيران، وسيناريوهات "الفوضى" المرتبطة به، جاءت الزيارة الأولى للسفير الأميركيّ في تركيا والمبعوث الخاصّ للرئيس دونالد ترامب إلى الملف السّوريّ، توماس برّاك، إلى بيروت، وهو الذي تسلّم الملف اللبناني مؤقتًا، بانتظار تعيين موفد بديل لنائبة المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، التي "أقيلت" من منصبها أخيرًا.
وبالمقارنة مع زيارات أورتاغوس الجدليّة، إن صحّ التعبير، بدت محطّة براك
اللبنانية هادئة وسَلِسة، ربما لأنّ تطورات العدوان على إيران، الآخذ في التوسّع أكثر فأكثر، خطفت الأضواء منها إلى حدّ بعيد، وربما لأنّ المقاربة التي اعتمدها الرجل بدت أكثر عقلانية من تلك التي اعتمدتها أورتاغوس، أو بالحدّ الأدنى أقلّ صخبًا، إذ لم يصدر في الكلام المقتضب الذي خرج به، ما يمكن أن يفسَّر "استفزازًا" لأيّ فريق من اللبنانيين.
فبخلاف أورتاغوس التي اختارت في زيارتها الأولى إلى
لبنان أن "تشكر"
إسرائيل على حربها الدموية ضدّ لبنان، لأنّها أدّت إلى هزيمة "
حزب الله"، قال توماس براك إنّه جاء إلى لبنان في محاولة "لمنع تكرار الحرب"، مكتفيًا بالقول إنّ احتمال انخراط الحزب في النزاع الإقليمي الدائر حاليًا بين إسرائيل وإيران سيكون قرارًا "سيئًا جدًا"، فأيّ رسائل تنطوي على هذه الزيارة بصورة عامة، وأيّ انطباعات تركت على مستوى المسؤولين اللبنانيين؟
مسار مختلف
صحيح أنّ هناك من يضع زيارة توماس براك الأولى إلى بيروت، في إطار "ملء الفراغ" الذي تركته إقالة مورغان أورتاغوس من منصبها، وعدم عودتها بالتالي إلى لبنان كما كان مقرّرًا، ولا سيما أنّ الرجل استلم الملف اللبناني "بالوكالة" بانتظار تعيين مبعوث "أصيل" للرئيس دونالد
ترامب، لكونه يستلم الملف السوري "الدسِم" أساسًا، إلا أنّ العارفين يشدّدون على أنّ زيارته ثبّتت مسارًا مختلفًا، وربما متقدّمًا، في التعاطي مع لبنان، يمكن البناء عليه.
ففي حين اختارت المبعوثة السابقة "الفوقية" عنوانًا لتعاملها مع لبنان، وهو ما ترجِم بسجالها مع عدد من المسؤولين، بمن فيهم الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، فضلاً عن تعبيرها المباشر عن رأيها "الفجّ" ضدّ "حزب الله"، يبدو أنّ براك اختار أسلوب "الدبلوماسية"، حتى إنّه لم يتحدّث أمام من التقاهم من مسؤولين عن "جدول زمني" لحصر السلاح بيد الدولة، كما فعلت أورتاغوس في زيارتها الأخيرة.
لا يعني ذلك أنّ الرجل ينطلق في مهمّته من "عناوين" مختلفة عن تلك التي رفعت أورتاغوس لواءها، وعلى رأسها حصر السلاح بيد الدولة، وبالتالي نزع سلاح "حزب الله"، كنتيجة طبيعية للحرب
الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، إلا أنّه يعني أنّه يقارب الموضوع من زاوية مختلفة، أقرب إلى تلك التي اعتمدها المبعوث السابق آموس هوكشتاين منه إلى أورتاغوس، وهو ما تجلّى في التصريحات التي صدرت عن الرجل، والتي كانت مقتضبة بالمناسبة.
انطباعات "إيجابية"
ليس خافيًا على أحد أنّ الأسلوب "الدبلوماسي" الذي اعتمده الموفد الأميركي الجديد توماس براك ترك أصداءه الطيّبة لدى معظم من التقوه، حيث بدت الانطباعات التي خلّفها "إيجابية" بصورة عامة، بدليل إعلان
رئيس مجلس النواب نبيه بري أنّ اللقاء الذي عقده معه كان "ممتازًا"، بل إشادته بالدبلوماسي الأميركي "المحترف"، الذي "يعرف جيدا التفاصيل في لبنان وما يدور مع إسرائيل"، وفق قول
بري، الذي حمل نقدًا ضمنيًا لأداء من سبقته في المهمّة.
وإذا كان بري صرّح بأنّه كان "مرتاحًا جدًا" في لقائه مع براك، فإنّ التسريبات الصحفية حول اللقاءات التي عقدها خصوصًا مع رئيسي الجمهورية جوزاف عون والحكومة نواف سلام جاءت في السياق نفسه، علمًا أن المعطيات المتوافرة أشارت إلى أنّ الملفات التي تركّزت عليها نقاشات الرجل لم تكن محصورة بملف السلاح، وإن احتلّ الأولوية، بل شملت أيضًا ملف الإصلاحات الاقتصادية، ودور
واشنطن في مساعدة لبنان، وكذلك العلاقة مع
سوريا.
لكنّ العارفين يشدّدون على أنّ ما هو أهمّ من هذه الانطباعات يبقى في "الترجمات"، خصوصًا أنّ هذه الزيارة بدت في مكان ما محاولة لملء الفراغ، لكنّها اعتُبِرت أيضًا في بعض الأوساط "تقطيعًا للوقت"، بانتظار أن تتّضح صورة الحرب الإسرائيلية على إيران، والموقف الأميركي منها تحديدًا، في ظلّ التكهّنات حول احتمال انخراط واشنطن المباشر بها، ما يمكن أن يخلط كلّ الأوراق، وربما يقلب المعادلات، ولو لم تكن ناضجة حتى الساعة.
في النتيجة، يمكن القول إنّ زيارة توماس براك إلى بيروت جيّدة، وتؤسّس في مكان ما لمقاربة أميركية مختلفة في لبنان، يمكن البناء عليها في المرحلة المقبلة. لكنّ كلّ الانطباعات حول الزيارة وغيرها تبقى "مع وقف التنفيذ" برأي العارفين، خصوصًا أنّ كل الاستحقاقات الداخلية والخارجية تبدو بحكم "المؤجّلة"، إلى ما بعد حرب إيران، التي يراهن كثيرون على أنّها لن تنتهي سوى بفرض معادلات جديدة، ستترك انعكاساتها على كلّ الملفات!