عندما أعلن "الحزب التقدمي الاشتراكي" عن مؤتمر صحافي لزعيمه ورئيسه السابق وليد جنبلاط، ظنّ كثيرون أنّ "البيك" الذي بات لا يخفى على أحد الوزن الإقليمي الذي يتمتع به، خصوصًا في ضوء الأحداث السورية الأخيرة، يريد أن يدلي بدلوه من المستجدّات التي طرأت في المنطقة، وانعكاسات الحرب الإسرائيلية الأميركية على إيران على المنطقة برمّتها، ومن ضمنها لبنان بطبيعة الحال، وهو المرتبط بها ارتباطًا عضويًا.
لكنّ المفاجأة كانت أنّ العنوان الأساسيّ، وربما الجدليّ، للمؤتمر الصحافي الذي عقده جنبلاط كان مختلفًا بالمُطلَق، وقد جاء من حيث لا يحتسب أو يتوقّع أحد، بل "لا عالبال ولا عالخاطر" كما يقال، إذ أعلن تسليم السلاح الذي قال إنّه كان "في موقع ما في المختارة" إلى الجيش ، مشيرًا إلى أنه سلاح خفيف ومتوسط، بالإضافة إلى بعض الرشاشات الثقيلة، كاشفًا أنّ عملية تسليمه للدولة قد أنجزت قبل ثلاثة أسابيع وأكثر، وفق توصيفه.
ولعلّ عنصر المفاجأة في الموضوع أنّ هذا السلاح الذي قال جنبلاط إنّه أتى تدريجيًّا بعد أحداث أيّار 2008، في استعادة لمرحلة التوتر بين "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"
حزب الله" التي بلغت ذروتها آنذاك، لم يكن عمليًا على بساط البحث، بل إنّ وجوده لم يكن معروفًا لأغلبية الناس وحتى السياسيين، فأيّ رسائل أراد "البيك" إيصالها من خلال إطلاقه مسلسل "تسليم السلاح"، إن جاز التعبير، وهل تندرج في سياق الضغط على "حزب الله" لتسليم ترسانته؟!
"ضربة معلّم"
يقول المحسوبون على "الحزب التقدمي الاشتراكي" إنّ الإعلان الذي خرج به جنبلاط حول تسليم السلاح "المتراكم" في المختارة إلى الدولة
اللبنانية، ممثّلة بالأجهزة الأمنية الشرعية، ولا سيما الجيش ، يُعَدّ "ضربة معلّم" إن صحّ التعبير، فهو أراد من خلالها التأكيد على فتح "صفحة جديدة" في العلاقات الداخلية والخارجية، بعيدًا عن كلّ ما كان سائدًا في السنوات السابقة، لكنّه أراد أيضًا "ترجمة" هذه الصفحة عمليًا، من خلال خطوة ملموسة يمكن البناء عليها.
بهذا المعنى، هناك من فهم "رسالة" جنبلاط من تسليم السلاح، وقد يكون محقًا في ذلك، على أنّها موجّهة بشكل أساسي إلى "حزب الله"، فضلاً عن الفصائل
الفلسطينية العاملة في لبنان، للتأكيد على أنّ منطق "حصر السلاح بيد الدولة" هو الذي يجب أن يسود، وبالتالي أنّ كلّ سلاح خارج سلطة السلطة يجب أن يُسلَّم، خصوصًا في ضوء التأخير الذي حصل على تسليم هذا السلاح، رغم تحديد جداول زمنية مثلاً للسلاح الفلسطينية، ما يطرح علامات استفهام عدّة.
لكنّ العارفين يشدّدون على أنّ "رسائل" جنبلاط تتجاوز بأبعادها وأهميتها "حزب الله" والفلسطينيين، فهو يوجّهها أيضًا إلى مختلف القوى السياسية، ولا سيما تلك التي تضغط على "حزب الله" لتسليم سلاحه، بشكل مُبالَغ به، في حين أنّ كلّ الأحزاب تقريبًا تمتلك سلاحًا مخبّأ خلف الأدراج، وهذا ليس بسرّ مخفيّ، وبالتالي فهو يدعو هذه القوى إلى الاقتداء به، والمبادرة إلى تسليم هذا السلاح، بادئ ذي بدء، للانتقال بعد ذلك إلى البحث بترسانة "حزب الله".
رسائل إلى "حزب الله"
لا يعني ما تقدّم أنّ جنبلاط لا يوجّه من خلال خطوته هذه رسائل مهمّة إلى "حزب الله" وإلى
الفلسطينيين، فهو يقول بوضوح إنّ صفحة جديدة فُتِحت في
الشرق الأوسط، وبالتالي فإنّ وسائل المواجهة السابقة طويت وما عادت صالحة، ولذلك فهو يشدّد ضمنًا على أنّ المطلوب من هذه القوى تحديدًا طيّ الصفحة، وقبول الأمر الواقع الذي نتج عن حروب "طوفان الأقصى" بفروعها المتعدّدة، بدليل أنّ العدوان
الإسرائيلي على لبنان مستمرّ بدون أيّ ردّ فعليّ.
وتتعزّز هذه الرسالة مع الموقف الذي يعلنه جنبلاط بشكل واضح من الأحداث الأخيرة، حين يقول مثلاً إنّ
إسرائيل والغرب هما اللذان "انتصرا" في الجولة الحالية من الحرب، وإن أضاف أنّ "لا شيء يدوم" في السياسة والعسكر، وهي رسالة تبدو موجّهة للحزب تحديدًا، الذي يصرّ على الحديث عن "نصر إلهي" حقّقته
إيران في حربها ضدّ إسرائيل، وهو ما يبني عليه ربما من أجل إعادة "خلط الأوراق" في الداخل، في محاولة لاستعادة زمام المبادرة.
وإذا كان حديث جنبلاط عن مزارع شبعا، وتحديدًا هويتها "السورية" وفق خلاصته، يشكّل بدوره رسالة لا يحبّذها "حزب الله" بطبيعة الحال، يشدّد العارفون على أنّ جنبلاط حاول إرساء "توازن" بين هذه المواقف، التي تعكس قناعة لديه بضرورة تسليم سلاح "حزب الله"، عملاً بالمعادلات الجديدة في المنطقة، وبين رفضه الطريقة التي يتعاطى بها البعض مع الحزب ومحاولة الضغط عليه، وهو بذلك يتقاطع إلى حدّ بعيد مع موقف الرئيس جوزاف
عون.
ليس المرّة الأولى التي يأخذ فيها وليد جنبلاط زمام المبادرة، إن صحّ التعبير، وهو الذي اعتاد على مرّ السنوات أن يلتقط مؤشّرات الأحداث الكبرى، من خلال راداراته الاستكشافية التي لطالما وُصِفت بالمتقدّمة، فهل يمكن القول إنّ خطوة "البيك" تأتي اليوم في هذا السياق، بما معناه أنّ
الأميركيين هم الحاكمون بأمرهم في هذه المرحلة، وما على لبنان سوى "التطبيع" مع هذا الواقع، قبل فوات الأوان!