يشهد
لبنان في الآونة الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بالزراعة التعاقدية، وهي نموذج اقتصادي واعد يمكن أن يشكل حجر الزاوية في تحقيق الأمن الغذائي، تعزيز التنمية الريفية، وتنشيط القطاع الزراعي
بشكل عام. وفي ظل التحديات الاقتصادية والبيئية التي يواجهها لبنان، يبرز هذا التوجه كحل مبتكر لضمان استمرارية الإنتاج الزراعي وتحسين دخل المزارعين.
فالزراعة التعاقدية، كما يدل اسمها، هي اتفاق بين المزارعين والمشترين (سواء كانوا شركات تصنيع غذائي، تجار جملة، أو سلاسل سوبر ماركت) يحدد شروط إنتاج وتسليم المنتجات الزراعية. يتضمن العقد عادة تفاصيل مثل الكمية، الجودة، السعر، ومواعيد التسليم، وقد يشمل أيضًا توفير المدخلات الزراعية (مثل البذور والأسمدة) والدعم الفني للمزارعين.
من هنا، عقد في
وزارة الاقتصاد والتجارة لقاء موسع بهدف اعتماد نموذج الزراعة التعاقدية كخيار استراتيجي، من خلال وضع آلية تنفيذية واضحة تتيح شراء القمح المحلي مباشرة من المزارعين لصالح المطاحن.
وأشار
وزير الزراعة الدكتور نزار هاني إلى أن الزراعة التعاقدية تمثّل إحدى الركائز الأساسية لاستراتيجية تحقيق السيادة الغذائية، مؤكداً أن
وزارة الزراعة تعمل على دعم الإنتاج المحلي من القمح عبر توفير البذور المحسنة العالية الجودة، إطلاق برامج إرشاد متقدمة، دعم الممارسات الزراعية المستدامة وتعزيز القدرة التفاوضية للمزارعين.
وقال: "نعمل على نقل القطاع الزراعي من نمط الإنتاج العشوائي إلى نموذج إنتاجي حديث قائم على التعاقد المسبق، ما يوفّر الحماية للمزارع، والاستقرار في الأسعار، وضمان تصريف الإنتاج، وكلها عناصر حيوية لتحقيق أمن غذائي مستدام.
بدوره، أكد
وزير الاقتصاد والتجارة الدكتور عامر بساط "أهمية تقليص الاعتماد على الاستيراد"، معتبرا أن "الزراعة التعاقدية تشكل حجر الأساس في استراتيجية تعزيز الإنتاج المحلي".
وفي هذا الإطار، ستتولى وزارتا الزرعة والاقتصاد إعداد إطار قانوني وتنظيمي شامل للزراعة التعاقدية يضمن حقوق الطرفين، ويحد من النزاعات عبر آليات تحكيم واضحة.
كما سيتم إطلاق منصة رقمية وطنية لربط المزارعين بالمطاحن والمصانع الغذائية، وتسهيل التعاقد الإلكتروني وإدارة البيانات والإنتاج.
إذاً، يتجه لبنان نحو الزراعة التعاقدية بفعل عوامل عدّة وعلى رأسها تحديات الأمن الغذائي، إذ لطالما اعتمد لبنان بشكل كبير على استيراد الغذاء، مما يجعله عرضة لتقلبات الأسعار العالمية واضطرابات سلاسل الإمداد. من هنا، تساهم الزراعة التعاقدية في زيادة الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، وبالتالي تعزيز الأمن الغذائي الوطني.
كما يواجه المزارعون اللبنانيون صعوبات جمة تشمل تقلبات الأسعار، صعوبة تسويق منتجاتهم، ونقص التمويل. وتوفر الزراعة التعاقدية ضمانًا للمزارعين بتسويق محاصيلهم بأسعار ثابتة ومحددة مسبقًا، مما يقلل من المخاطر ويضمن لهم دخلاً مستقرًا. كما أنها تتيح لهم الوصول إلى التقنيات الحديثة والتدريب اللازم لتحسين جودة منتجاتهم وزيادة إنتاجيتهم.
علاوة على ذلك، تتطلب العقود الزراعية غالبًا الالتزام بمعايير جودة ومواصفات محددة، مما يدفع المزارعين لتبني ممارسات زراعية أفضل. ويساهم هذا الأمر في رفع مستوى جودة المنتجات
اللبنانية وزيادة قدرتها التنافسية في الأسواق المحلية والدولية.
كما توفر الزراعة التعاقدية بيئة أكثر استقرارًا وجاذبية للمستثمرين في قطاع الأغذية والزراعة، حيث تضمن لهم إمدادًا ثابتًا وموثوقًا من المواد الخام.
أما لتحقيق أقصى استفادة من الزراعة التعاقدية، فيجب توفير دعم شامل للمزارعين، من خلال تزويد المزارعين بالمعرفة والمهارات اللازمة لتبني أفضل الممارسات الزراعية، استخدام التقنيات الحديثة، وتحسين جودة منتجاتهم لتلبية متطلبات العقود.
الهند، تايلاند، كينيا، الفيليبين وسواها من الدول حول العالم، طبقت الزراعة التعاقدية بنجاح وحققت نتائج إيجابية ساهمت في تحديث الزراعة، زيادة دخل المزارعين، وتحسين جودة المنتجات للتصنيع، فضلاً عن تعزيز قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية.
على الرغم من الإمكانات الواعدة، يواجه تطبيق الزراعة التعاقدية في لبنان بعض التحديات وعلى رأسها الحاجة إلى إطار قانوني وتنظيمي واضح يحمي حقوق الطرفين، بناء الثقة بين المزارعين والمشترين، وتوفير الدعم الفني والمالي اللازم للمزارعين وخاصة الصغار منهم.
لن يعزز ترسيخ نموذج الزراعة التعاقدية فقط قدرة لبنان على تحقيق الأمن الغذائي، إنما سيسهم أيضًا في تنمية المناطق الريفية، خلق فرص عمل، وإعادة إحياء القطاع الزراعي ليلعب دوره الحيوي في الاقتصاد اللبناني المنهك. هي خطوة بناءة نحو لبنان أكثر ازدهاراً، فهل يسير بها المسؤولون؟