يتكرّر في الخطاب السياسي الأميركي مؤخرًا تلويحٌ واضح بسحب اليد من
لبنان، وكأن
واشنطن تلوّح بخفض أو إنهاء اهتمامها بهذا البلد. وقد جاء هذا الخطاب بعد زيارة المبعوث الأميركي الخاص توم
براك إلى
بيروت وقبلها، حيث بدا أن واشنطن توجّه رسائل ضاغطة أكثر من كونها ساعية إلى التهدئة.
لكن ما معنى “سحب اليد” عمليًا؟ وما مراحله وتبعاته؟
أولًا، ما يُمكن تسميته بالمرحلة الأولى من هذا الانسحاب الأميركي، قد بدأ فعلاً. إذ أعلنت واشنطن عبر براك نفسه أن
اتفاق الهدنة لم يعد قائمًا فعليًا ويجب تعديله، أي أن
الولايات المتحدة لم تعد تُراقب أو تُلزم أي طرف بتطبيق وقف إطلاق النار، بل باتت تعتبر أن التفاهم قد “مات”. هذا التصريح يرفع الغطاء الدولي عن الاستقرار الهش جنوبًا، ما يفسح المجال لتصعيد تدريجي.
ثانيًا، سعت واشنطن في الكواليس إلى منع أي مساعدات عربية أو خليجية من الوصول إلى لبنان. وهذا ظهر بوضوح في السنتين الماضيتين، حيث فشلت عدة مبادرات لدعم لبنان اقتصاديًا أو إنسانيًا بسبب ضغوط سياسية مباشرة أو غير مباشرة من الولايات المتحدة، خصوصًا إذا لم تترافق تلك المساعدات مع “إصلاحات” تطالب بها واشنطن.
ثالثًا، ان تبدأ أميركا تتغاضى عن تخطي إســرائيل لخطوط حمر كانت سابقًا موضع رفض دولي، مثل قصف بيروت أو البنى التحتية المدنية. وإذا ما تم تجاوز هذا السقف لاحقًا، فسيكون ذلك بمثابة ضوء أخضر أميركي غير مُعلن، لكنه واضح في مضمونه.
رابعًا، ثمة إشارات متزايدة إلى أن واشنطن قد لا تعارض اشتباكات محدودة بين
الدولة اللبنانية وبعض القوى الموجودة داخل
سوريا، وتحديدًا الاجانب التابعين لنظام الرئيس
احمد الشرع، إذا ما تفجّرت التوترات عند الحدود. وهو ما كان يُعتبر سابقًا خطًا أحمر يمنع الانجرار إلى جبهات خارجية.
باختصار، لا يبدو أن أميركا قررت التخلي الكلي عن لبنان، لكنها تبعث برسائل تهديدية عبر هذه الخطوات المتدرجة، وكلها تصب في خانة رفع الغطاء، وترك لبنان يواجه أزماته ومخاطره الإقليمية وحده. والخطورة تكمن في أن بعض هذه المراحل قد حصل بالفعل، لا سيما منع المساعدات وسحب اليد من التفاهمات الأمنية، ما يعني أننا أمام تحوّل جدي في الدور الأميركي، ستكون له تداعيات كبرى داخليًا وخارجيًا.