في كل "عرس" إقليمي للبنان فيه قرص. فلا يكفي هذا اللبناني العادي الساعي إلى رزق عياله بخوف ربّه ما يعانيه من مشاكل يومية لا تعدّ ولا تحصى حتى يأتيه من يزّجه غصبًا عنه، ومن دون أن يسأله رأيه، في حروب إقليمية لا شأن له فيها. فما نزل على رأس هذا اللبناني من كوارث ومصائب وويلات جرّاء قرار اتخذه "
حزب الله" منفردًا من دون "شورى أو دستور" بربط "الساحة"
اللبنانية بساحتي غزة وطهران قد أعاده سنوات طويلة إلى الوراء مع ما فيها من تقهقر وانزواء وتخّلف عن مواكبة التغييرات السريعة الحاصلة في المنطقة، قد يتكرّر اليوم أو غدًا أو بعده، وذلك بسبب تغييب الحكومة نفسها عن فرض سيطرتها على قرارها واستعادة هيبة الدولة وحضورها.
ومع أن
لبنان لا يزال يعاني من تداعيات هذا القرار الأحادي والخارج عن الاجماع اللبناني الوطني فإن حوادث السويداء دفعت ببعض اللبنانيين إلى التعاطي معها من زاوية طائفية بحتة من دون الأخذ في الاعتبار ما يمكن أن تكون عليه ردّات فعل الآخرين، الذين لهم ارتباطات طائفية أخرى. وهذا الواقع المخزي يعيد اللبنانيين على مختلف مشاربهم وطوائفهم وانتماءاتهم السياسية إلى قول لا يزال يحفر في ذاكرتي عندما قال لي أحد السياسيين الراحلين في بداية الحرب اللبنانية بأن هذه الحرب ستفرز واقعًا جديدًا على الساحة اللبنانية عملًا بالمثل القائل "كل عنزة معلقة بكرعوبها".
فالأحداث المتوالية والمتتالية، التي شهدها لبنان، ولا يزال، منذ خمسين سنة، أثبتت أن لبنان هو بلد طائفي بامتياز، وأن كل طائفة "معلقة بكرعوبها"، مع غياب كلي لمفهوم المواطنة الحقيقية.
فالانشغال اللبناني بالحدث السوري تجاوز إطاره العام ليصل إلى الانخراط التلقائي مع هذا الطرف ضد ذاك في "لعبة طائفية" خطيرة الأهداف والمعاني في جرّ لبنان إلى ما لا دخل له فيه سوى بدعوة الجميع إلى الاتعاظ مما جرى على الساحة اللبنانية، وما لحق به من شرور نتيجة الارتباط الطائفي الأعمى، الذي لا يزال يتفاعل عند كل مفترق طرق.
فما شهدته منطقة السويداء
السورية لها دلالات وتداعيات خطيرة لم تنتهِ مفاعيلها على رغم التوصل إلى تسوية يعتقد كثيرون أنها مؤقتة، وذلك نظرًا إلى ارتباط هذه الحوادث بما يخطّط للمنطقة من إعادة رسم لخطوطها الطويلة والعريضة في ترسيم جديد لخرائط دولها، ومن بينها بالطبع
سوريا والعراق، وقد لا يكون لبنان في منأى عن هذا المخطّط، الذي تحدّث عنه الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك بكل وضوح وصراحة .
فما جرى في السويداء أمس وقبله وما سيجري على الأرجح في
المستقبل خطير للغاية ليس على سوريا فقط، بل على لبنان ايضًا، أقّله لناحية تراجع الاهتمام الدولي بانشغالات لبنان، وذلك نظرًا إلى توجيه
واشنطن نظرها إلى ما يجري في الداخل السوري لما له من ارتباط وثيق مع ما تسعى إليه إدارة الرئيس
دونالد ترامب من مشاريع للمنطقة بأسرها بما فيها من تطلعات لها علاقة بعمليات التطبيع المتعدّدة الأطراف والأهداف.
وما زاد طين الحوادث الدامية في السويداء بلّة دخول
إسرائيل على الخط مما أعاد العقارب الأميركية إلى الوراء، أقله إلى ما قبل محادثات اذربيجان بين مسؤولين اسرائيليين ومسؤولين سوريين اسفرت عن بلورة تفاهم مبدأي لإمكانية بداية مرحلة جديدة بين الدولتين، اللتين لم تربط بينهما سوى سنوات من الجفاء، ووسط "ستاتيكو" غير متفجّر على حدود
الجولان.
وتأتي هذه الحوادث في الوقت الذي يحتاج فيه لبنان أكثر من غيره من دول الجوار إلى الهدوء والاستقرار، "لأن ما فيه مكفيه"، خصوصًا في ظل التهديدات العسكرية المتواصلة من قِبل إسرائيل، وكذلك التهديدات السياسية الآتية من وراء البحار، وآخرها ما أسلفه توم برّاك عن ضم لبنان إلى "بلاد الشام"، ووسط إصرار "حزب الله" على التمسك بسلاحه معرّضًا لبنان من جديد لأخطار جمّة.
وما قاله الرئيس
نجيب ميقاتي بعد لقائه بطريرك الروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يُعتبر بمثابة ناقوس خطر عمّا يمكن أن يتعرّض له لبنان من مخاطر واضطرابات محتملة، إذ أشار إلى "أننا في مرحلة شديدة الحساسية والتعقيد، وتتطلب تعاونا بين جميع المسؤولين والقيادات لبلورة موقف واضح واتفاق على خطوات تنفيذية اساسية تبعد الشرور عن وطننا". وأضاف: "لم يعد الواقع الذي نعيشه يتيح الكثير من هوامش التحرك، بحيث وصلنا الى مرحلة تتطلب قرارات اساسية تؤخذ بالتفاهم لتعزيز سلطة الدولة وبسط سيادتها على كل اراضيها. علينا الاسراع في مواكبة ما يجري من حولنا، لأنني اخشى ان تسبقنا التطورات في المنطقة ويغيب الاهتمام الدولي بلبنان، مما يضيع على وطننا كل فرص الانقاذ المتاحة."