وسط انهيار اقتصادي غير مسبوق، وتحولات اجتماعية متسارعة، تجد الأسرة
اللبنانية نفسها أمام تحدٍ وجودي. الزواج يتراجع بوتيرة مثيرة للقلق، والطلاق بات خيارًا متكرّرًا في مواجهة الضغوط اليومية. ليس ما يحدث مجرد ظواهر عابرة، بل ملامح واضحة لتحول بنيوي عميق في شكل الأسرة ووظيفتها وأولوياتها.
تشير الإحصاءات إلى انخفاض معدلات الزواج في
لبنان بأكثر من 30% خلال السنوات الخمس الماضية، مقابل ارتفاع مضطرد في معدلات الطلاق تجاوز 50% في بعض المناطق.
الخبراء يعزون ذلك إلى مجموعة عوامل مترابطة، أبرزها:
-الأزمة الاقتصادية التي جعلت الزواج ترفًا لا طاقة للشباب عليه.
-البطالة وغياب الاستقرار الوظيفي، ما يؤخر قرار الارتباط.
-الهجرة التي أفرغت المجتمع من طاقاته الشابة، وجعلت بناء الأسرة خيارًا مؤجلًا.
في موازاة تأخر الزواج، تسجل المحاكم والمراجع الروحية ازديادًا ملحوظًا في طلبات الطلاق. منذ 2019، ومع اشتداد الانهيار الاقتصادي، أصبح الطلاق يُقرأ ليس فقط كخلاف بين طرفين، بل كصورة عن عجز البنية الاقتصادية والاجتماعية عن حماية الأسرة. ويوعز أيضا الخبراء أسباب الطلاق إلى الضغط المالي والمعيشي الذي يضاعف التوترات داخل المنزل. تحوّل في أدوار المرأة واستقلاليتها الاقتصادية، ما يحرّرها من البقاء القسري في علاقة فاشلة. وغياب الدعم الاجتماعي أو النفسي في مواجهة الأزمات.
أجيال اليوم لم تعد ترى في الزواج ضرورة اجتماعية، بل تعتبره خيارًا مشروطًا بالضمانات. بناء الذات، تحقيق
الاستقلال المالي، والهجرة، تتقدّم على الارتباط الأسري. يقول د.
زياد شيا، أستاذ علم الاجتماع، خلال اتصال عبر "
لبنان24" أنّ ما نشهده ليس مجرد أزمة عابرة بل تحوّل ثقافي جذري. العقد الاجتماعي القديم يتآكل، والشباب يريدون ضمانات ملموسة قبل خوض التزامات حياتية طويلة."
ويقترح سيا لوقف هذا النزيف الاجتماعي، خارطة طريق تبدأ من معالجة الجذور لا المظاهر، أبرزها:
- حوافز مالية وتشجيعية للشباب الراغب في الزواج (قروض إسكانية، تخفيض رسوم الزواج المدني/الروحي).
- إصلاح القوانين الأسرية لتكون أكثر عدالة وتوازنًا في ما يتعلق بالطلاق والحضانة والحقوق المالية.
- نشر ثقافة الحوار الأسري والتربية العاطفية في المدارس.
- تحسين الظروف الاقتصادية العامة، لأن الاستقرار العائلي لا ينفصل عن الاستقرار المعيشي.
ما بين تأخر سن الزواج، وتزايد حالات الطلاق، تُطرح أسئلة كبرى: هل نشهد انهيارًا للنموذج التقليدي للأسرة؟ أم أننا أمام فرصة لإعادة بنائها على أسس أكثر مرونة وعدالة وواقعية؟ في الحالتين، لا يمكن أن تقف الدولة والمجتمع مكتوفي الأيدي. فالأسرة ليست مجرد "نواة اجتماعية"، بل العمود الفقري لنجاة مجتمع بأكمله.