في مقابلته التلفزيونية الأخيرة امس ، بدا رئيس الحكومة نواف سلام عالقاً بين إيقاع خارجيٍ يضغط للحسم بسرعة وميزانٍ داخليٍ هشّ يخشى أيّ صدام مباشر. غير أنّ تفكيك تصريحاته يكشف شبكةَ تناقضاتٍ واضحة: بعضها في صلب المواقف المعلَنة، وبعضها في ما غُيِّب عمداً عن النقاش. فقد ظلّ الحديث أسيرَ محاولة إرضاء جميع الأطراف، من دون أن يقدّم موقفاً حاسماً أو يرسم خريطة عمل يمكن ترجمتها إلى إجراءات ملموسة.
في ملف سلاح "
حزب الله"، سعى سلام إلى رسم توازن دقيق، فأقرّ بدور
المقاومة في تحرير الجنوب، ثم سرعان ما أشار إلى أن هذا السلاح لم ينجح في ردع
إسرائيل خلال الحرب الأخيرة. هذا التتابع في الطرح، من دون أي توضيح، يعكس تناقضاً جوهرياً لم يتوقف عنده رئيس الحكومة. فبينما تجنّب بوضوح أي اصطدام مباشر مع "الحزب"، أرسل في المقابل إشارات واضحة إلى الخارج مفادها أن ظروف إقفال هذا الملف أصبحت أكثر نضجاً. وإذا كان البعض يرى في هذا النهج محاولة لتفادي الانقسام الداخلي، فإن مصادر مطلعة تعتبره مقاربة ظرفية تهدف إلى تمرير المرحلة بأقل قدر من التوتر الداخلي، في مقابل أقصى ما يمكن من التسهيل الدولي.
في السياق ذاته، اعتمد سلام تفسيراً ناقصاً للقرار 1701، حيث اكتفى بالإشارة إلى ضرورة تنفيذ التزامات
لبنان من دون أي حديث عن التزامات العدو. من جهة أخرى، تجاهل أن القرار نفسه يتضمن انسحاباً إسرائيلياً كاملاً وبسطاً متوازناً لسلطة الدولة. ووفق مصادر متابعة، فإن هذه المقاربة تتقاطع مع الضغوط الأميركية الرامية إلى حصر القرار بالشق اللبناني، في محاولة لإعادة تشكيل المعادلة القائمة بما يخدم نزع ورقة القوة من دون ثمن سيادي مقابِل.
وفي ما يتعلّق بالرد اللبناني المُرتقب على ردّ
واشنطن، تؤكد المصادر أن رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس مجلس النواب
نبيه بري يتجهان لتقديم جواب إيجابي على مبدأ "خطوة مقابل خطوة" إنما بشروط واضحة. إذ يُشدد الطرفان، وفق المصادر نفسها، على أن أي تنفيذ لبناني يجب أن يسبقه
التزام إسرائيلي واضح بالانسحاب من النقاط الخمس، ووقف الخروقات والاغتيالات، والسماح بانتشار الجيش على كامل الحدود إضافة إلى إطلاق سراح الأسرى. وبعد ذلك فقط، يمكن الانتقال إلى بحث الجدول
الزمني لنقاش الاستراتيجية الدفاعية وسلاح المقاومة. في حين تطرح واشنطن، عبر مبعوثها توماس براك، الذي، بحسب المعلومات، يصل إلى
بيروت مطلع الأسبوع المقبل، خطة تقوم على "التوازي" بين انسحاب إسرائيلي جغرافي وتفكيك تدريجي لسلاح المقاومة، الأمر الذي تراه المصادر خطوة تُفضي عملياً إلى إنهاء ورقة
القوة اللبنانية، ما يفقد الدولة أي قدرة على الضغط أو فرض التزامات مقابلة على العدو، في وقت لا يزال فيه الاحتلال يمتنع عن تنفيذ البنود الأساسية لاتفاق وقف الأعمال العدائية.
بالتالي، فإن الساعات المقبلة ستكون حاسمة في بلورة الصيغة النهائية للرد اللبناني، وسط انقسام داخلي حول الأولويات، وتفاوت في تقدير مدى خطورة الرضوخ لمعادلة "التزامن" التي تجرّد الدولة من أي هامش تفاوض فعلي. وفي السياق ذاته، ترى المصادر أن رئيس الحكومة لا يملك فعلياً المبادرة في هذا الملف، لا من حيث القرار ولا من حيث الإدارة، بل يلتزم مساراً خارجياً لا يبدو قادراً على تعديله.
ومع أن بعض المدافعين عن سلام يعيدون ذلك إلى توازنات الداخل، إلا أن المصادر تلفت إلى أن المسألة تتجاوز الحسابات المحلية. إذ إن طبيعة الأجندة الأميركية التي تُرسم على أساسها المرحلة المقبلة، وانسجام سلام المسبق معها، يجعلان من موقعه التنفيذي عنصراً مقيّداً، ما يفقده القدرة على المناورة أو تعديل المسار القائم. الأمر الذي يطرح سؤالًا جدياً حول مدى استقلالية الحكومة، وقدرتها على إنتاج موقف وطني متماسك في لحظة إقليمية تتجه نحو الحسم.
ما يثير الانتباه أيضاً هو توجّه سلام إلى تحميل الدولة مسؤولية عدم بسط سلطتها بعد التحرير، متجاهلاً أن الجيش انتشر فعلاً آنذاك في الجنوب، غير أن التمويل والتجهيز والضغوط الدولية حالت دون تمكينه من أداء مهامه. وتشير المصادر إلى أنه بهذا الخطاب، يتنازل رئيس الحكومة عن سردية أساسية في معادلة ما بعد التحرير، ويعيد صياغة الوقائع بما يتلاءم مع مزاج بعض العواصم لا مع معطيات الواقع اللبناني وتوازنات المواجهة الفعلية.
أما على مستوى ملف الإعمار، ترى المصادر أن سلام لم يقدّم أي مبادرة جدية خارج خانة التمني. إذ اقتصر حديثه على تعداد ما وصل من البنك الدولي والجهات الأممية، من دون الإشارة إلى أن العروض البديلة قوبلت بالتجميد أو الرفض بفعل الحسابات السياسية. ورغم أن استثمار أي مبادرة دعم خارجية، بغض النظر عن مصدرها، يمكن أن يُشكّل رافعة سياسية للدولة، اختار رئيس الحكومة، وفق المصادر، التزام موقع المتفرّج الذي ينتظر بدل أن يبادر ويخلق بيئة تنافس فعلية على دعم لبنان.
من جهة أخرى، تطرّق سلام إلى ملف السلاح الفلسطيني، فحذّر من احتمال تحوّله إلى فتنة داخلية، ثم عاد واعتبر أن هذا السلاح أسهم في إبقاء القضية
الفلسطينية حيّة وأعادها إلى الواجهة في اكثر من محطة. هذا التناقض، بحسب المصادر، يعكس غياب رؤية واضحة للتعامل مع ملف أمني شائك لطالما شكّل عامل توتير داخلي، في حين لا تظهر في المقابل أي مقاربة عملية لضبطه أو إغلاقه ضمن تسوية شاملة.
في المشهد العام، لم يُظهر سلام امتلاكاً للأدوات التي تسمح له باتخاذ قرارات حاسمة في ملفات بهذا التعقيد. وبمعزل عن مؤهلاته الشخصية، فإن طبيعة المرحلة الإقليمية الراهنة، التي تشهد تحوّلاً تقوده واشنطن، تجعل من مهمة أي رئيس حكومة بالغة الصعوبة، سواء في تدوير الزوايا أو في المواجهة المباشرة. لكن ما يزيد الأمر تعقيداً، وفق المصادر، أن سلام لا يبدو في موقع الباحث عن هوامش أو مخارج، بل يتقدم بخطاب ينسجم تماماً مع الاتجاه الخارجي، فيما الفريق الداعم لوصوله يضغط بشدة في عدد من الملفات الحساسة، ما يُقيّده أكثر ويُفقد حكومته أي دينامية مستقلة.
من جهة أخرى، فإن التوافق الذي لطالما وُصف في لبنان بأنه صمّام أمان، يُستخدم اليوم عملياً كأداة لتعطيل القرار، لا لحماية الاستقرار. فكل تفصيل سيادي يتطلّب إجماعاً، وكل ملف مصيري مؤجّل بانتظار تطوّر خارجي. وفي هذا السياق، لا يبدو سلام رئيساً ممسكاً بزمام المرحلة، بل واجهة تدير مرحلة مؤقتة بانتظار ما يُرسم على طاولة الخارج، ما يعكس موقعاً تنسيقياً أكثر منه موقعاً تقريرياً.
في المحصلة، ما خرج به رئيس الحكومة لم يكن موقفاً سيادياً واضحاً، ولا خطة تنفيذية، ولا حتى إشارة إلى معادلة متوازنة تحفظ للدولة ما تبقّى من أوراق. فالخطاب كان أقرب إلى محاولة تمرير اللحظة من دون خسائر كبرى، لكنه فشل في تقديم تصور حقيقي لما يمكن فعله، أو لما لا يجب القبول به. وإذا كانت السياسة باتت اليوم فن "إدارة" الممكن، فإن سلام لم يحدّد حتى الآن ما هو الممكن أصلاً!