في الوقت الذي تبدو المنطقة تغلي على وقع حوادث السويداء يُسأل البطريرك الماروني الكاردينال
مار بشاره بطرس الراعي عن سبب رفضه المقاعد الستة للمغتربين. ويُسأل من أعطي مجد
لبنان أيضًا عن توقيت هذا الطرح فيما لبنان يقف على حافة انفجار كبير. ولو لم يكن لبنان في خطر وجودي نتيجة ارتباطه جغرافيًا على الأقّل بما يحصل في
سوريا لما كان كل هذا الاستنفار السياسي، الذي شهدته الساحة المحلية في الساعات الماضية. وهذا الاستنفار كان محوره الطائفة الدرزية، التي لها امتدادات وروابط معنوية مع دروز سوريا.
وبغض النظر عن دقّة المرحلة وحساسيتها لم ينسَ البطريرك الماروني ما يشغل بال اللبنانيين عمومًا والمغتربين خصوصًا، وذلك نظرًا إلى أهمية هذا الاستحقاق الدستوري في الحياة السياسية
اللبنانية. فالمغتربون، إلى أي طائفة أو حزب انتموا، هم لبنانيون، وإن كانوا يحملون جنسيات أخرى. وتكاد تكون هذه الصفة شاملة معظم اللبنانيين. لكن هذا الواقع لا يعني في أي حال من الأحوال أن المغتربين اللبنانيين الذين يحملون جنسيات أخرى لم يعودوا ينتمون إلى وطن الأرز بالهوية والهوى والتجذّر بأرض الأباء والأجداد. ومن حقّ هؤلاء أن يتساووا مع اللبنانيين المقيمين بالحقوق والواجبات.
فأهمية ما قاله البطريرك الراعي هو أنه جاء في حضور رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في دير مار مارون في عنايا لمناسبة عيد القديس شربل. وفي ذلك إشارة منه إلى أنه يؤيد ويدعم التوجّه العام بالنسبة إلى ضرورة الغاء المادة 112 من القانون الانتخابي الحالي، باعتبار "أن استحداث ست دوائر للمغتربين مخالف للمساواة التي هي مبدأ يكفله
الدستور، وما نشهده هو عملية إقصاء للمغتربين، الذين يتطلّعون إلى المشاركة في الانتخابات المقبلة بكل حرية، ولا بدّ من أجل حماية الحرية من إلغاء المادة 112 من
قانون الانتخابات".
بهذه الصراحة التي ما بعدها صراحة خاطب البطريرك الماروني الرئيس الماروني المؤتمن على الدستور، ومن خلاله خاطب مجلس النواب، وبالأخصّ النواب الذين يؤيدون بقاء القانون الانتخابي كما هو، ومن بينهم نواب كتلة "لبنان القوي"، لكي يعيدوا النظر بموقفهم، الذي لا خلفية له سوى المصلحة الآنية. وهذه المصلحة المحدودة بالزمان والمكان لا تعبّر تعبيرًا صادقًا عمّا يريده اللبنانيون المغتربون بأكثريتهم الساحقة، وقد سبق أن عبّر نيابة عنهم مطارنة الانتشار، الذين طالبوا باحترام حرية
الاختيار لمن يعنيهم الأمر مباشرة، وهم أصحاب القرار.
وبهذا الموقف يكون البطريرك الراعي قد أعاد عقارب مجلس النواب إلى الأجواء التي سبقت انتخابات العام 2022. وفي رأي كثيرين، سياسيين ومسؤولين روحيين، أنه لو لم يكن في المادة 112 من القانون الانتخابي عيب جوهري لما كان عُلّق العمل بها، ولما كان شهد الاغتراب هذه الحماسة غير المسبوقة على المشاركة، ولو جزئيًا، في صنع القرار اللبناني الذاتي. وهذه المشاركة لم تكن من عبث، أو لمجرد حماسة عابرة، بل جاءت نتيجة تعطّش المغترب إلى أن يكون شريكًا فعليًا في تحمّل مسؤولية انقاذ ما يمكن إنقاذه حتى ولو كانت هذه المشاركة رمزية ومعنوية.
ولا نقول جديدًا عندما نذكّر بأن لبنان لم يكن ليصمد في وجه الأعاصير التي عصفت به، ولا تزال، لو لم يساهم المغتربون، الذين لا تزال تربطهم بأرض الأباء والأجداد علاقة وجدانية عميقة، في مدّه بالأمصال الضرورية. ولولا هذا الأوكسيجين الاغترابي لما كان في استطاعة اللبنانيين مواصلة حياتهم الطبيعية على رغم ما مرّ بهم من مآسٍ وويلات وحروب يبدو أنها لم تنتهِ فصولها بعد.
ويُعتقد أن موقف البطريرك الماروني قد أعطى إشارة الانطلاق للداخل السياسي وللخارج الاغترابي لمرحلة جديدة من التعاطي السياسي مع هذا الموضوع المحوري والمفصلي في الحياة السياسية. ويُعتقد أيضًا وأيضًا أنه إذا لم يبادر مجلس النواب، وبمبادرة خاصة من رئيسه
نبيه بري، إلى تعليق العمل بالمادة 112، وقبل فوات الأوان، فإن مصير انتخابات العام 2026 سيكون على محكّ النوايا. ولا يُستبعد ألاّ يشارك المغتربون في هذه الانتخابات إذا أصرّت الأقلية في مجلس النواب على فرض إرادتها على الأكثرية، ولم تستجب لما تراه أغلبية اللبنانيين حقًّا مكتسبًا وصائبًا.