من الصعب إنكار أن اللبنانيين بشكل خاص، والعرب عمومًا، قد تعبوا من الحروب. بات من الشائع سماع عبارات مثل "تعبنا من الحرب" و"بيكفي حروب"، خاصة بعد ما شهدته المنطقة منذ 7 تشرين الأول 2023، وهو التاريخ الذي غيّر ملامح
الشرق الأوسط بشكل كبير.
وسط هذا المشهد، أصبح الإنترنت أداة تضامن مهمة، بل وسيلة ضغط فعّالة. مجرد إطلاق "هاشتاغ" ومتابعته يمكن أن يُحدث فرقًا في الرأي العام.
في بداية الحرب على غزة، رأينا عددًا كبيرًا من المشاهير والمؤثرين يستخدمون منصاتهم للتعبير عن تضامنهم مع القضية
الفلسطينية، كلٌ بطريقته الخاصة. هذا التفاعل أثّر بشكل كبير على متابعيهم، من مختلف الأعمار، فاندفع كثيرون للتعبير عن دعمهم أيضًا، متأثرين بما ينشره هؤلاء من كلمات ومواقف وصور.
ومع مرور الوقت على هذه الحرب المستمرة حتى اليوم، تزداد المأساة في غزة قسوة، خصوصًا مع المجاعة المخيفة التي يعيشها السكان هناك. فقد توفي عشرات الاشخاص من بينهم أطفال، بسبب الجوع وسوء التغذية، وكذلك الحال في الدول المجاورة، وحتى في
جنوب لبنان، حيث يستمر الناس في العيش وسط أهوال الحرب، يتعرضون للقصف ويسقط بينهم
شهداء حتى اليوم.
ورغم ما يحدث، نلاحظ غيابًا شبه تام للتفاعل والتضامن مع ما يجري في الجوار، في وقت تكثر فيه المهرجانات والاحتفالات. فالسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا خفّ هذا التفاعل؟ وما الذي أدى إلى فتور التضامن رغم استمرار المعاناة؟
الاختصاصية النفسية رُبى بشارة تشرح لـ"
لبنان 24" أنّه "في ظلّ الأحداث الإنسانية الأليمة التي تواجهها المنطقة، تُقام في بعض المناطق مهرجانات صيفية واحتفالات. وهنا لا نريد أن ندخل في جدل إن كان ذلك "إنكارًا" للمخاوف التي يعيشها اللبنانيون في الوقت الراهن، أم هو محاولة "مقاومة" للمستجدات السلبية والإصرار على إظهار وجه
لبنان. فوجود الفن، حتى ولو الى جانب ساحات المعارك، يُمثّل نفسيًا ورمزيًا للشعوب محاولة تعبير عن وجود، أو محاولة لتضميد
الجراح".
أما في ما يخصّ التفاعل عبر منصات التواصل الاجتماعي، فتسألت بشارة: "علينا أن نُصوّب الفكرة، لأن الموضوع يختلف جذريًا عمّا يبدو على
مواقع التواصل الاجتماعي. فبعد أن أشارت المشاهدات العيادية والأبحاث النفسية إلى خطر تقلّص الخلايا الذهنية، وكذلك تراجع القدرة على تنمية الذاكرتين القصيرة والبعيدة المدى، نعود لنسأل: ما معنى كلمة "تفاعل" اليوم؟ هل ما زالت هذه المنصات تضمن التفاعل الحقيقي والصادق بمعناه الفعلي؟ أم أنها أصبحت مصدر خطر على بناء المبادئ ونقاط الارتكاز التي يحتاجها الفرد لنموّ "التعاطف" وتشكّيل الأخلاقيات الضرورية للتفاعل الإنساني الحقيقي مع الآخر؟".
وأوضحت أنّه "مع الأسف، بتنا نشهد موجة من عدم استجابة التعاطف، خصوصًا عند الأجيال الشابة. إجمالًا، في تفسير علم النفس، تظهر البرودة في التعاطف نتيجة صدمات أو أزمات على الصعيد الشخصي أو الجماعي. لكن الظاهرة التي نشهدها اليوم قد تكون نتيجة غياب ثقافة الحثّ على التعاطف، وهنا يكمن الخطر، إذ إنّ هذه المهارة العاطفية يمكن أن تُكتسب من خلال البيئة المؤثِّرة، لا فقط أن تكون فطرية. إلّا أنها باتت شبه معدومة لدى الكثير من الشباب، وهذا أمر بات مستفزًا في بعض الأحيان للفئات التي تطالب بوجود حدّ أدنى من العدالة الاجتماعية والأخلاقية".
في النهاية، التضامن قضية شخصية يختارها الإنسان بحرية، لكن ما نشهده اليوم أن التضامن تحوّل إلى ظاهرة مؤقتة تتبع الموضة وتختفي سريعًا، دون أن تعبّر عن مشاعر حقيقية أو
التزام دائم. وهذا هو الخطر الحقيقي، إذ يفقد التضامن معناه العميق ويصبح مجرد صوت يتلاشى
مع مرور الوقت.