مساءلة وزراء سابقين في مجلس النواب خطوة أولى على طريق مكافحة الفساد علّها لن تكون خطوة يتيمة، أو على الأقل أن تنتهي هذه المساءلة كما انتهت إليه مساءلة الحكومة قبل عشرة أيام، حيث تمّت إعادة الثقة بها بعدما لم يترك النواب في كلماتهم سترًا مخبًأ. فالمساءلة إن لم تصحبها محاسبة تكون بمثابة فقاقيع صابون سرعان ما تتلاشى حتى وقبل انتهاء جلسة المساءلة. وبهذه الطريقة يكون النواب، الذين شمّروا عن سواعدهم بعدما خلعوا ستراتهم لكثرة الحرّ داخل القاعة نتيجة انقطاع التيار الكهربائي، قد أفسحوا في المجال أمام المزيد من الفساد والمخالفات والتجاوزات، التي يعتقد الوزراء أو أي مسؤول في الإدارات العامة بأنه محصّن وبأن بيته في رأس القلعة، وليس من زجاج.
فمساءلة
مجلس النواب اللبناني للوزراء السابقين للاتصالات، تعني عمليًا أن لا كبير أمام القانون، وأن أي إجراء يمكن أن يتخذه أي وزير أو أي مدير عام في
المستقبل سيكون مراقبًا، وسيحاسب عليه، خصوصًا إذا كانت هذه القرارات التي يتخذها أي وزير يعتبر نفسه "ملكًا غير متوج" تضرّ بالمصلحة العامة تحت عرف ما يسمى "مع الإصرار والتأكيد"، وهو مصطلح غالبًا ما يلجأ إليه الوزراء، الذين يعتبرون أنفسهم "عناتر زمانهم".
البداية مع وزراء تعاقبوا على
وزارة الاتصالات، التي تعد من بين الوزارات المهمّة، التي تعتمد عليها خزينة الدولة لمدّها بموارد مالية لا يُستهان بها، وهي تُعتبر أيضًا من "الوزارات المدهنة" على حدّ قول السيدة فيروز في إحدى مسرحياتها. أمّا إذا لم يتبع هذه الجلسة جلسات أخرى لمساءلة وزراء آخرين كالوزراء، الذين تعاقبوا على
وزارة الطاقة والمياه مثلًا أو
وزارة الخارجية والمغتربين أو غيرها من الوزارات، التي استبيح فيها القانون، وحلّت مكانه الاستنسابية، فإن قديم الفساد سيبقى على قدمه، وسيبقى الوزراء "يسرحون ويمرحون" في وزاراتهم من دون قيد أو مراقبة أو حسيب.
فماذا تعني هذه المساءلة تحديدًا؟
تعني بالدرجة الأولى، وإن في صورة صورية، فتح ملفات الهدر والفساد، التي تهدف إلى تسليط الضوء على كيفيّة صرف الأموال، وإبرام العقود، وإدارة الشأن العام في فترة تولّي هؤلاء الوزراء حقائب وزارية في فترات سابقة.
وتعني في ما تعنيه أيضًا تحديد المسؤوليات. هي خطوة سياسية مهمة قبل أن تكون قانونية، وذلك من أجل تحديد هوية الذين تعاقبوا من الوزراء في وزارة الاتصالات أو في غيرها من الوزارات، التي فاحت منها رائحة الفساد كما تفوح رائحة النفايات في شوارع
بيروت في مثل هذه الأيام الحارة، خصوصًا الرائحة، التي تصدر من محيط بيروت الدولي، وهي التي "تستقبل" السياح الآتين إلى
لبنان لتمضية فصل الصيف في ربوعه.
وتعني أيضًا وأيضًا أن من يسمح لنفسه بارتكاب أي تجاوز للقانون، أيًّا كان نوع هذا التجاوب، يجب أن يُساءَل في الدرجة الأولى، على أن تلي هذه المساءلة في حال ثبوت القرائن الحسيّة المحاسبة وفق الأنظمة والقوانين
اللبنانية المرعية الاجراء.
وتعني قبل أي شيء آخر أن على المكّلف اللبناني أن يميز بين الذين عملوا بوحي من ضميرهم الوطني، وحافظوا على كل قرش من المال العام، وبين الذين نهبوا وسرقوا وعاثوا فسادًا في كل مكان وطأت فيه أقدامهم القذرة. وعليهم أن يعرفوا هوية الذين كانوا يرفعون شعارات الإصلاح وما شابه ومكافحة الفساد وما لفّ لفّه، فيما كانوا يعملون من تحت الطاولة ما يخجلون على فعله فوقها. وعليهم أن يعرفوا أيضًا من هم المسؤولون، الذين توالوا على إدارة الشأن العام، والذين يتحمّلون في صورة مباشرة مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم الاقتصادية والحالية من انهيار ما بعده انهيار، نتيجة أساءة استخدام السلطة.
هذه المساءلة تعني لكل مواطن شريف أنها بداية لمسار طويل. وهي بداية تعكس رغبة بعض الكتل النيابية، أو ربما شوق الرأي العام، في دفع الطبقة السياسية نحو المحاسبة،
بعد سنوات من الإفلات من العقاب.
ونسأل مع السائلين: هل هذه الخطوة غير المسبوقة هي مقدّمة لوضع قطار مكافحة الفساد على السكة الصحيحة؟
(للحديث صلة وتتمة).