Advertisement

لبنان

ياه، ما أحلاكن

Lebanon 24
28-07-2025 | 01:45
A-
A+
Doc-P-1397423-638892892498277228.jpg
Doc-P-1397423-638892892498277228.jpg photos 0
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
كتبت مريم البسام: في عصر «ياه، ما أحلاكن، شو حلوين»، رُحّلتُ إلى عالم صاخب، فيه ضجيج الدنيا، ومصانع حياكة الالتفافات السياسية الفاتنة بين الدول.
صبيّة كلية الفنون، في سنتها التحضيرية، تتقدّم بامتحانات إذاعية لبرامج تُشبه زياد، وعقله الذي كان زينة البلاد.
Advertisement
يُحكى في حينه أن رجل الظل لإذاعة «صوت الشعب»، كان هذا المرابض في شارع الحمرا، ويتسرّب إلى وطى المصيطبة، كمقرّر ومشرف على استوديوهات فيها كل حبال الصوت وأثيره.

والبنت القادمة من عشائر بني مسرح للفنون، وإيماءات فايق حميصي، وخصور سهام ناصر، وجنون يعقوب الشدراوي، وسحر بطرس روحانا، يقرّر ابن انطلياس أن يعزلها إلى رمال سياسية متحركة، كانت تُسمّى «قسم الأخبار».
لستة أشهر، بكيت طويلاً من زياد وعصبة حنا صالح وطوني فرنسيس وحسن الشامي وطانيوس دعيبس وآخرين، لأن آراءهم هجّرتني من ضفاف الفنون إلى عِلْم الجن السياسي.

واليوم، بعد عقود، لا أعرف كم سأبكيه وطناً عمّرَه على وزن مكسور، وليوم مع لياليه، يكتنز أطول ساعات الصيف، وقفت أدقّق في النبأ المؤكد، وأنا التي أدّعي تَحدّري من سلالة صناعة الخبر.
رفضت تصديق الرواية المنسوجة زوراً، عن رجل لا يموت، يعيش فينا قبل الميلاد، ونحياه نغماً، وتمرداً، وتحرراً من كل قيود.
أول حزن سبق الدمع كان فيروز، التي تسلّلتُ إلى أحوالها، وتَجسّستُ على رُبوعها، وأيقنت في حينه أنها لا تزال في حالة عدم اليقين. رَفضتْ شائعاتنا، لازمت صمتها، احترفت الحزن والانتظار، وارتأت ألا تصدّقنا، نحن معشر الصحافة الشاردة.

قد تكون قالت: تلك روايات من صنيعة «اللّي بيلفّقوا أخبار... فزياد مشوار يا عيوني، مرق مشوار».
وهذا الزياد، الوارث عن أمه كل هزلية الدنيا وضحكاتها، كان ونيسها الدائم، حتى في زمن «التباعد الاجتماعي».
تجلس على أريكتها وتسمع موسيقاه من راديو لصيق، وترشدك إلى مكامن الإبداع، ترويه عبقرياً يجدّد زمانه، وتشرح لك يوماً، وفي جلسات ممنوعة من الصرف الإعلامي، كيف قفز من «البوسطة» التي كانت متجهة إلى تنورين، هرباً من عيون عليا الحلوين، على مسرح «بالنسبة لبكرا شو».
هي تسكن هديره الطاحن في الموسيقى، العابر عن أزمنة وحدود، المؤسس لجمهورية مرّة، فيها كل حلاوة الدنيا وسخريتها.
عالبال يا فيروز، في حزنها الواسع وسع المدى.
لا بدّ أنها الآن رجعت إلى طفولة زيادها، لترنّم:
«وشو الدني يا بني، وشو طَعم الدني
إنْ ما هَبّجتْ وجي بإيديك الحرير،
وهالقلب عم حفّو على جرين السرير
عم مرمغو بلعبك، بمطارحك، بفراشك،
بريحة ريشات جوانحك،
بغبرة حوافر حصانك، هالزغير يا بني»
أقامت فيروزنا بين الرحيل والسُكنْى، مسيّجة ببلادها العالية، المعمّرة بقلوب وغناني.
ودارت الأسئلة كموال من سهرة حب: كيف لقلب سيّدة لبنان الأولى أن يحتمل كل هذا الغياب؟
فقبل سنوات، سقطت ليال عن قمة الكاميرا الشاهقة، وهي التي ارتفعنا معها في سماء «بنت الحارس» على ورق وخيطان، في أغنية لم تهرب منها البنت الصغيرة مع «هالورق الطاير».

وكان «هالي» رقيباً على الغياب، بصمت الغارقين في وحدتهم، العازفين عن الحراك، المشاركين بالدمع حصراً، المتوقدين عصراً. يسمع صوتها يتسلل:
«غِديو هلي يا هلي... بالسّحر، ما هي ربوعن دواني».
لا تهنأ حياة لهالي من دونها، ولا تكون فيروز «بلاه»،
هي صوت الله الشافي، الذي أتاه على أطباق من ذهب: عاصي وزياد، الخام منه والمشغول.
كل هذا الحب النازف، تختزنه الأم التي نادت ذات صلاة:
«واه حبيبي، أي حال أنت فيه؟»
فأي حزن سيكفيها الآن، وهي تودّع سفينتها كما في أورفيليس؟
كيف ستمضي عن مدينة زياد من غير كآبة؟
ستسمع شعوباً يهتفون: «لا تفارقنا، لا تفارقنا»، فالمحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق.
فيروز وزياد: ستظلان معاً، حتى في سكون تذكارات الله، ومعاً حين تبدد كما أجنحة الموت البيضاء.
وفي يوم اثنين، صوب بكفيا، ستبحر السفينة. ستعود فيروز إلى عرزالها برفقة ريما
«واسألوا ريما:
كيف بوعى بهاللّيالي،
بقعد أنا وحالي،
أهْدُس فيكن،
حاكيكن،
طرقات عمّار مشاريع،
ووزّع هالمدى،
لا آخد من رزق حدا،
ولا زعّل حدا...
قوليلن يا ريما».

وفي يوم تُلقى فيه التحية على زياد... قد نلمح طيفها هناك،
ونمسك بقطعة حزن عنها، ربما نلتقط دمعتها، لنزرعها في ريف العيون.
سيكون حزننا مشتركاً، فزيادك للعموم، للبنان، لشعبه المسكين الذي لا يعرف «أرضه لمين؟»
من قال لك يا زياد إنه:
«ولا غنيّة نفعت معنا،
ولا كلمة، إلا شي حزين؟»
نحن بكينا ودمّعنا،
لكن كل ودائعك هنا... معنا.
مخزونك طاف بين المدن، أغنياتك، صوتك، سخريتك منّا، وعلى الشعب العنيد، صارت نشيداً بين الناس.
يا أبو علي... يا رفيق القمح وصبحي الجيز، صديق المجانين ومخفف عنهم وطأة الجمهورية، ستغادرنا في اثنين من رماد الأيام المتكسّرة، وتترك بلاداً كما صنعتها مسرحياتك: لبنان لحم بعجين.
لكن هذا العجين تلاحم على رحيلك، خرق إطلاق النار اللبناني على اللبناني، أوقف الخلاف، كما أوقف رشيد السير في شارع الحمرا.
سنختلف على كل تفصيل، إلا عليك،
أنت الذي تنبأت بماضينا، وحاضرنا، والآتي إلينا، عرّيتنا من تزيّفنا، وكنت لبنان المُلتهب طائفياً.
شكراً يا رفيق... «ما رح فينا نمشي ونكفّي الطريق؟»
شكراً على جمهورية مهريّة، وصفتها على واقعها،
لكننا سنستل بعض أمل من صوت فيروز،
ونشدّ على صمودها، ونقتدي بنصائح زياد، العابرة للأوطان المشيّدة على صخر جوزيف حرب:
«فيكن تنسوا
الخبز، الكلام،
الأسامي، الأيام،
والمجد اللي إلكن،
لكن شو ما صار،
ما تنسوا وطنكن»
زياد وفيروز «ياه، ما أحلاكن، شو حلوين».
مواضيع ذات صلة
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك