لم يكن خطاب رئيس الجمهورية جوزاف عون في مناسبة عيد الجيش مجرّد مناسبة تقليدية، بل بدا أشبه بـ"بيان رئاسي" صريح، أو حتى "خطاب قسم ثانٍ"، كما وصفه كثيرون، رسم خلاله معالم المرحلة المقبلة، محددًا موقع الدولة ودورها، وموجّهًا رسائل واضحة إلى الداخل والخارج، في وقت تتّجه الأنظار إلى "
حزب الله" تحديدًا لرصد كيفية تلقّفه هذا الموقف الرئاسي، وما إذا كان سيُبدي تجاوبًا أم يعمد إلى رفع السقف مجددًا.
فخلال زيارته إلى
وزارة الدفاع بمناسبة عيد الجيش، اختار عون أن يكون صريحًا ومباشرًا، فكشف للمرة الأولى عن مضمون الورقة الأميركية، والتعديلات "الجوهرية" التي أدخلها الجانب اللبناني عليها، والتي سيُطرح مضمونها على
مجلس الوزراء الثلاثاء وفق الأصول، من أجل تحديد المراحل الزمنية لتنفيذها، واضعًا بذلك حدًّا للتكهّنات الكثيرة التي أبقت الورقة والردود عليها أسيرة "التسريبات" الصحافية غير الرسمية.
ولم يقتصر خطاب الرئيس عون على هذا الجانب، بل عاد وأكّد ما يعتبره "ثوابت وطنية"، موجّهًا دعوة غير مباشرة إلى "حزب الله" وبيئته الحاضنة، مفادها أنّ الرهان يجب أن يكون على الدولة
اللبنانية وحدها، "وإلا سقطت تضحياتكم هدرًا، وسقطت معها الدولة أو ما تبقّى منها"، كما قال. فكيف سيتعامل "حزب الله" مع هذا الخطاب، وهل يتلقّفه بإيجابية، علمًا أن أمينه العام الشيخ نعيم قاسم كان قد سبقه إلى إطلاق موقف اعتبر فيه أيّ دعوة لتسليم السلاح "خدمة للمشروع
الإسرائيلي"؟
"خطاب قسَم ثانٍ"
يصحّ وصف خطاب رئيس الجمهورية في مناسبة عيد الجيش بأنّه "خطاب قسم ثانٍ"، إذ كرّر من خلاله، بشكل أو بآخر، المبادئ والثوابت التي وردت في خطاب القسم الذي ألقاه في مجلس النواب عند انتخابه مطلع العام، وفي مقدّمها مبدأ حصر السلاح بيد الدولة. وقد أرفق هذه الثوابت بملفات أخرى قال إنّ الحكومة الحالية أعطتها أولويتها ترجمة لتعهّداتها، من بينها إعادة بناء ثقة المواطنين بالقضاء، وتعزيز الأمن، وضمان حقوق المودعين، وإعادة هيكلة الإدارة، فضلاً عن إعادة إدماج
لبنان في محيطه العربي والمجتمع الدولي.
لكن، وعلى الرغم من شمولية الطرح، فإنّ الملفّ الأساسيّ الذي شكّل محور الخطاب كان بلا شكّ ملفّ السلاح وضرورة حصره بيد الدولة. وهو بند سبق أن ورد في خطاب القسم، ونال يومها تصفيق نواب حزب الله، شأنهم شأن سائر النواب، إلا أنّ الرئيس عون أضاف إليه هذه المرة ما يمكن وصفه بـ"أدوات تنفيذية"، مستندًا في ذلك إلى روحية الورقة الأميركية، والتعديلات اللبنانية التي تتلاقى في جوهرها مع الضمانات التي يطالب بها الحزب، بل وربما تتجاوزها في بعض جوانبها من حيث تقديم ضمانات أمنية وسياسية لم تُطرح سابقًا بشكل علني.
وبهذا المعنى، يمكن فهم خطاب الرئيس من زاويتين متكاملتين: الأولى، أنه يسعى إلى "تعبيد الطريق" أمام انعقاد جلسة الحكومة يوم الثلاثاء، متجاوزًا حملات "التهويل الإعلامي" التي سبقتها، ومحاولًا نزع "صاعق التفجير" منها؛ والثانية، أنه يحاول في الوقت ذاته طمأنة "حزب الله" إلى مضمون الطرح الحكومي المرتقب، بالتوازي مع دعوته إلى عدم "المغامرة بمشروع بناء الدولة"، وعدم تقديم ذرائع مجانية لعدوان لا يزال يتربّص بالبلاد، على حدّ تعبيره.
كيف يقرأ "حزب الله" الخطاب؟
للوهلة الأولى، قد يُقرأ في كلام رئيس الجمهورية تباينٌ واضح مع موقف "حزب الله"، الذي رفع السقف قبل ساعات قليلة على لسان أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، ما دفع البعض إلى اعتبار خطاب الرئيس بمثابة "تصعيد في مقابل التصعيد"، نتيجة إصراره على المضيّ في مسار سحب السلاح، في حين كان الشيخ قاسم واضحًا برفضه أيّ نقاش في هذا الموضوع حاليًا، على الأقلّ قبل أن تطبّق
إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار بصورة كاملة.
لكن، أبعد من هذا التباين الظاهري، ثمة من يتحدث عن تقاطعات جدية بين موقفي الرئيس والحزب، إذ لم يكتفِ عون بالدعوة إلى "حصر السلاح"، بل عرض ما يشبه "خريطة طريق" تتقاطع مع مطالب "حزب الله" نفسها، خصوصًا أنّ بند سحب السلاح لا يحتل المرتبة الأولى فيها، بل يأتي ثالثًا، بعد وقف الأعمال العدائية
الإسرائيلية، وانسحاب قوات الاحتلال إلى خلف الحدود المعترف بها دوليًا، مع تأكيده على تنفيذ متوازٍ ومتزامن لهذه البنود.
وكان لافتًا قول رئيس الجمهورية إنّ البنود المطروحة "لا يمكن لأيّ لبناني صادق ومخلص إلا أن يتبنّاها، لأنها تقطع الطريق على إسرائيل في مواصلة عدوانها". وفي هذا الإطار، يتحدّث العارفون عن وجود "إيجابية مبدئية" لدى "حزب الله" تجاه هذا الطرح، باعتباره يتقاطع مع رؤيته من حيث المبدأ، ولو أنّ الخلاف قد يظهر على مستوى التفاصيل أو الآليات، ما يطرح مجددًا احتمال أن تكمن "الشيطنة" في تفاصيل التطبيق.
يمكن القول، في الخلاصة، إنّ رئيس الجمهورية قدّم في خطابه خريطة طريق واضحة، تضع حصر السلاح بيد الدولة كهدف نهائي، ولكن ضمن مسار موازٍ يتضمّن وقف العدوان الإسرائيلي، وتحرير الأسرى، وصولًا إلى تنظيم مؤتمر دولي للجهات المانحة لإعادة إعمار لبنان خلال الخريف المقبل، وغير ذلك من الخطوات المرتبطة بالحل السياسي الشامل.
فهل ثمة إمكانية للتوصل إلى"خط وسط" بين رؤيته وموقف "حزب الله"؟ وهل يلتقط الحزب اللحظة، ويحوّل خطاب الرئيس إلى "مخرج ملائم"، أم أن الخلاف على "الطريقة والتوقيت" سيبقى عائقًا أمام إعادة تثبيت معادلة الدولة أولًا؟