كتبت "العربية": للعام الخامس على التوالي أحيى
لبنان ذكرى انفجار مرفأ
بيروت المروع، حيث دوّى أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ في قلب العاصمة
اللبنانية. فدمّر المرفأ وأحياءً بأكملها، وأسقط أكثر من 200 قتيلاً وآلاف الجرحى، تاركًا وراءه مدينة مكسورة، وقلوبًا محطّمة، ونفوسًا لم تُشفَ حتى اليوم.
فما لم يُرمَّم حتى الآن لا يُقاس فقط بالحجارة والركام، بل بالندوب النفسية التي لا تزال محفورة في ذاكرة الناجين والمواطنين، صحافيين ومدنيين، أطفالاً وكبارًا.
ففي الرابع من آب، تغيّرت حياة الشيف
علي ناصر الذي كان يعمل في قصر سرسق في الأشرفية، المنطقة المحاذية لمرفأ بيروت، الذي لا يزال يعاني صدمة نفسية وجسدية على حد قوله.
ويتذكر الهرج والمرج في الشوارع، قائلا "كانت الناس تهرع، والبعض يركض بملابس النوم، أو حفاة، أو مصابين. كان المشهد سرياليًا... جنسيات مختلفة، لبنانيون وغير لبنانيين، أطفال يصرخون، نساء يركضن، وآخرون يبحثون عن أحبّائهم تحت الركام."
وواجه علي صعوبات هائلة في الوصول إلى المستشفى بعد إصابته، إذ روى كيف وصل وهو ينزف إلى "مستشفى الروم"، لكنّه كان شبه مدمر، ليقصد بعدها مستشفيات أخرى، منها "رزق" و"أوتيل ديو" فيما كانت مكتظة، وغير قادرة على استيعاب المزيد من المصابين خصوصاً في ظلّ أزمة
كورونا الخانقة حينها، ما اضطر الطواقم لترك بعض المصابين خارج أبواب الطوارئ.
لكن أكثر ما هزّه هو ما
شاهده في أروقة المستشفى لامرأة تحمل طفلتين غارقتين
بالدم، إضافة إلى مشاهد أطفال جرحى، مقطّعي الأطراف، مغمى عليهم، وأحدهم فقد ذراعه، وآخرون لم يعرف إن كانوا أحياء أم أموات، بسبب إصاباتهم البليغة. وروى بحرقة كيف بدأ الأطباء يُجرون عمليات من دون تخدير وعدد من المصابين فقدوا الوعي من شدّة الألم."
إلا أنه رغم مرور خمس سنوات، لم يتجاوز الصدمة، كاشفاً أنه يتناول دواء أعصاب منذ الحادثة حتى اليوم. ورأى أن كل شيء تغيّر، شعره تساقط وجسده يرتجف كلما سمع صوتًا قويًا.
في ختام كلامه، قال علي بصوت خافت: "كأننا خرجنا من جهنم، لكنّها ما زالت تحترق فينا من الداخل، خمسة أعوام مرّت، وما زلتُ هناك... في الرابع من آب، على رصيف مرفأ بيروت."
بدوره، استعاد الصحافي محمد قليط تفاصيل اللحظة التي شكّلت منعطفًا نفسيًا في حياته المهنية والشخصية، حيث تحوّل من ناقل للحدث إلى شاهد عليه.
وتحدث محمد لموقع العربية/الحدث.نت، قائلا "كنت مع صديقتي فرح عندما دوّى الانفجار. في البداية ظننته شيئًا بسيطًا، لكن تصاعد الدخان من المرفأ غيّر كل شيء. أدركت أنني في قلب كارثة حقيقية."
فتوجّه إلى بيروت وفي سيارته كاميرته. وبدأ التصوير، وأجرى مقابلات، ثم راح يوثّق الفوضى من حوله، باحثاً عن الكادر الأفضل والمشهد الأقوى، لكن سرعان ما اصطدم بما وصفه بـ"الانفصال عن الواقع". وأضاف: "كنت أصوّر، لكن في لحظة ما، رأيت الجرحى يُسحبون على الأرض، المستشفيات تغصّ بالمصابين، الناس تهرب، وأنا أسأل نفسي: هل ما أفعله هنا مهني؟ إنساني؟"، وفي تلك اللحظة، اتخذ قراره بإطفاء الكاميرا.
فقد تركت هذه اللحظة تركت أثرًا عميقًا فيه، لم يتجاوزه بسهولة. وقال "لم أعد أشاهد المقاطع التي صوّرتها في ذلك اليوم. مرّت خمس سنوات، وما زلت غير قادر على رؤيتها مجددًا".
وفي الذكرى الرابعة للحادثة أي العام الماضي أعطى ملف تصوير انفجار المرفأ لزميله في المونتاج لإنجاز تقرير حول الموضوع وطلب منه أن يتولى الأمر لكي لا يستعيد ما مر به نفسيا.
فبالنسبة لمحمد، لم يكن الانفجار مجرّد حدث غيّر وجه المدينة، بل جُرح مفتوح في الذاكرة لا تزال ارتداداته النفسية حاضرة بقوة.
من جهتها، أكدت المعالجة النفسية د.تانيا طنوس حسب معاينتها لتأثير انفجار مرفأ بيروت على الأشخاص، أن التداعيات النفسية لها وقع أكبر على من كانوا بالقرب من مكان الحادثة. إلا أنها رأت أن حتى من تابعوا المشهد من خلف الشاشات أو سمعوا الصوت من بعيد لم يكونوا بمنأى عن الوقع النفسي. وأردفت موضحة: "بيروت، ببساطة، ليست كأي مدينة، إنها العاصمة والرمز، ولها معنى خاص في الوعي الجماعي للبنانيين، حتى لأولئك القاطنين في مناطق بعيدة كالشمال أو الجنوب، فحين تسقط بيروت، يشعر الجميع بالخسارة".
كما أشارت إلى أن كبار السن تأثروا على المدى
الطويل أكثر من الأطفال، حسب المرضى الذين عالجتهم، وذلك يعود لأن هؤلاء عانوا من إعادة تفعيل لصدمات قديمة مرتبطة بالحرب، فيما الصغار وعلى الرغم من أنه لا يمكن إزالة الأثر النفسي نهائيًا عنهم إلا أنه من خلال العلاج النفسي خصوصًا "العلاج باللعب" يتخطون ما عاشوه أسهل من الكبار.
إذا بعد خمس سنوات على كارثة مرفأ بيروت، لا تزال آثار الانفجار حيّة في النفوس كما في المكان، وحيث يروي الناجون معاناتهم وكأنها حدثت بالأمس.
فيما يُجمع المعالجون النفسيون على أن آثار الصدمة الجماعية لن تُمحى بسهولة، لا سيما في ظل غياب المحاسبة والعدالة، وفي بلد تتوالى فيه الأزمات بلا هوادة.