بعد يومين فقط من جلسة "سحب السلاح" الجدليّة التي عقدتها حكومة الرئيس نواف سلام، وخرج "حزب الله" إثرها ليتحدث عن "خطيئة كبرى" ارتكبتها الحكومة، معلنًا أنّه سيتعامل مع قرار تجريده من سلاحه "وكأنّه غير موجود"، جاءت جلسة "الورقة الأميركية" الاستلحاقية يوم الخميس، لتعمّق الشرخ القائم بين الحكومة وأحد مكوّناتها الأساسيّة، أي "الثنائي الشيعي"، الذي اختار وزراؤه الانسحاب من الجلسة للمرّة الثانية، اعتراضًا.
ورغم انسحاب الوزير الشيعي الخامس، أسوة بزملائه المحسوبين على "الثنائي"، فإنّ الحكومة مضت في قرارها بالموافقة على "أهداف الورقة الأميركية" لتثبيت وقف إطلاق النار، علمًا أنّ المضمون الذي أُقرّ يتجاوز بكثير العناوين التقنية والأمنية، ويطاول جوهر التوازن الداخلي اللبناني، ولو أنّ الحكومة برّرته بأنّه يتلاقى مع مضمون البيان الوزاري الذي وافق عليه الوزراء الشيعة من دون تحفّظ، والذي ينصّ صراحة على حصر السلاح بيد الدولة.
ويذهب كثيرون إلى اعتبار القرار الذي اتُّخذ في ظل ضغوط أميركية ودولية، تتويجًا لمسار سياسي مستمر منذ أشهر، يهدف عمليًا إلى تطويق "حزب الله"، استكمالاً لأهداف الحرب
الإسرائيلية الأخيرة عليه. غير أن طريقة إقرار هذا المسار داخل الحكومة، في ظل غياب طرف سياسي وطائفي أساسي، تطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل التركيبة الحكومية، والتوازنات الدقيقة التي قامت على أساسها، بل تضع مصير الحكومة برمّتها في دائرة الخطر.
مقاطعة "مدروسة"؟
لم يكن انسحاب وزراء حزب الله وحركة أمل من الجلسة وليد اللحظة، ولا مفاجئًا، فالمواقف التي صدرت خلال الأيام الماضية عن مسؤولي الحزب، ولا سيما بعد جلسة يوم الثلاثاء، عكست رفضًا قاطعًا لمناقشة الورقة الأميركية، بل إنّ ثمّة من وضع مشاركة هؤلاء في الجلسة، رغم كلّ شيء، في خانة دعوة الحكومة إلى "تصحيح" ما صدر عنها في الجلسة السابقة، وإبداء شيء من "التريّث" في التعامل مع الورقة الأميركية.
من هنا، كان انسحاب وزراء "الثنائي" متوقَّعًا. لكن ما أضفى عليه طابعًا رمزيًا أشدّ هذه المرّة، هو انضمام الوزير فادي مكي إلى ركب المنسحبين، وهو ما لا يبدو تفصيلًا عابرًا للمتابعين، إذ عبّر في مكانٍ ما عن تطابق الرؤية داخل البيئة الشيعية، ولو اختلفت الخلفيات الحزبية. فالرجل الذي حرص، حتى خلال هذه الجلسة، على "التمايز" عن "الثنائي"، أراد أن يقول إنّ الاعتراض لا يقتصر على حزبين سياسيين، بل يشمل طيفًا أوسع من أبناء الطائفة، ممن يرون أن قضايا بهذا الحجم لا يمكن أن تُمرر من دون توافق وطني واسع.
ولعلّ الأهم من الموقف نفسه هو السياق الذي جاء فيه. فالاعتراض لا يتعلّق فقط برفض شكلي للورقة الأميركية، بل بمسارٍ كاملٍ يُشعر الثنائي الشيعي بأنّ هناك محاولة لفرض تسويات تتجاوزه، سواء على مستوى الداخل اللبناني أو على صعيد الصراع الإقليمي. بذلك، يصبح الانسحاب من الجلسة أداة ضغط ورسالة سياسية بامتياز، قد تُمهّد لتصعيد لاحق، أو لإعادة التفاوض على موقع الحزب ودوره في المعادلة الوطنية.
توازن الحكومة على المحكّ؟
هكذا، وبإقرار الورقة في غياب المكوّن الشيعي، ولو تحت عنوان "الأهداف فقط لا غير"، تكون حكومة نواف سلام قد دخلت فعليًا نفق الانقسام الداخلي. فرغم الطابع "الرسمي" للقرار، إلا أنّ غياب طرف أساسي عنه يُجرّده من الكثير من شرعيته السياسية، خصوصًا إذا تمسّك الثنائي الشيعي بموقفه الرافض، وامتنع عن التعاون في تنفيذ ما تم إقراره. وهذا ما يضع الحكومة أمام معضلة حقيقية: كيف يمكنها المضي في تنفيذ قراراتها، في ظل غياب أحد شركائها الرئيسيين؟
وقد لا يكون التغنّي بـ"الروح
الديمقراطية"، كما فعل وزير الإعلام بول مرقص بعد الجلسة، حين نوّه بـ"نقاشات حضارية وعميقة"، كافيًا للإجابة عن هذا السؤال، إذ تعود إلى الواجهة مسألة "الميثاقية"، التي لم تكن يومًا تفصيلًا في النظام السياسي اللبناني، بل حجر زاوية في بنيته. ومهما بلغت أهمية القرارات المتخذة، فإنّ صدورها في ظل غياب مكوّن طائفي أساسي، يضعها في خانة "الطعن المبدئي". وهذا ما شهدته حكومات سابقة، حين علّقت الجلسات أو جرى تعطيل القرارات تحت هذا العنوان بالذات.
أمام هذا المشهد، تبدو خيارات رئيس الحكومة محدودة. فهو لا يستطيع التراجع عن قرار اتُخذ بإجماع الحاضرين ويحظى بدعم دولي واسع، بل بات واضحًا أنّه مطلب لا رجعة عنه في نظر
المجتمع الدولي. وفي الوقت ذاته، لا يمكنه المجازفة بفقدان الغطاء الشيعي لحكومته، لما لذلك من تداعيات خطيرة على توازن السلطة. وحتى لو سعى إلى تدوير الزوايا عبر اتصالات خلفية، فإنه يدرك أن حكومته دخلت عمليًا مرحلة جديدة من التعقيد، وأن "التوافق" الذي انطلقت به لم يعد قائمًا كما كان قبل جلسة الخميس.
في الشكل، سجّلت الحكومة نقطة لصالحها أمام المجتمع الدولي، بإقرارها الورقة الأميركية رغم التجاذبات. لكن في الجوهر، خسرت عنصرًا أساسيًا من عناصر تماسكها الداخلي، وهو ما يطرح علامات استفهام جدية حول قدرتها على الاستمرار كحكومة وحدة وطنية. وربما تكون جلسة الخميس قد شكّلت لحظة التحوّل المفصلية، التي انتقلت فيها حكومة نواف سلام من موقع "التوافق" إلى واقع جديد أقرب إلى "حكومة أمر واقع"، في بلدٍ لا تُحكم فيه المؤسسات إلا بالتفاهم بين مكوّناته.