في الايام القليلة الماضية وبعد زيارة الموفد
الاميركي توم براك الى
لبنان، برزت مؤشرات لافتة على تبدل اللهجة الأميركية في مقاربة الملف اللبناني. التصريحات والمواقف التي صدرت حملت نبرة مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في الأشهر الماضية، وهو ما تلاقى مع تقارير في الإعلام الإســرائيلي تتحدث للمرة الأولى عن إمكانية البحث بوقف إطلاق نار طويل الأمد مع لبنان عبر جهود اميركية.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل جاء في أعقاب زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني علي لاريجاني الى
بيروت وبغداد، وهي زيارة حملت أبعادًا أوسع من مجرد لقاءات بروتوكولية.
فبحسب ما تسرّب من كواليس الزيارة، وضع لاريجاني خطوطًا حمراء واضحة لا تخص السلطة
اللبنانية، بل تتعداها إلى الإطار الإقليمي والدولي. الرسائل التي نقلها حملت طابعًا استراتيجيًا، أعاد التذكير بمدى حضور
إيران في ملفات المنطقة، وأكد أن طهران، رغم الضغوط المتصاعدة، ما زالت تملك أوراقًا مؤثرة على مسار الأحداث. هذه النقطة بالذات جعلت المراقبين يقرأون في الزيارة مؤشرًا على إعادة تموضع مدروس أكثر منه خطوة دبلوماسية عابرة.
من جهتها، تدرك إيران ومعها ما تبقى من مكونات "المحور" أن ثمة تراجعًا ملموسًا في مواقعها الإقليمية نتيجة المتغيرات الدولية والإقليمية. إلا أن طهران حريصة على التأكيد بأن هذا التراجع لا يعني الهزيمة الكاملة، ولا يمكن اعتباره إعلانًا بانتهاء دورها. بل على العكس، ثمة قناعة راسخة داخل أروقة القرار
الإيراني أن المعركة لم تنتهِ بعد، وأن الاستعداد لخوض مواجهة كبرى يبقى خيارًا قائمًا إذا ما اقتضت الضرورة إعادة التوازن إلى المنطقة.
هذه الرسائل لا تبدو بعيدة عن مسار النقاشات الدائرة في
واشنطن. فالأخيرة، رغم تشددها العلني في ملفات عدة، قد تكون معنية بفتح قنوات تفاهم أوسع مع طهران، تقوم على مقايضة واضحة: ضمان عدم انزلاق المحور الشيعي نحو خطوات تربك التوازنات الإقليمية، مقابل وقف محاولات إقصائه بشكل كامل من معادلات النفوذ. هذا السيناريو، إذا ما صحّت المؤشرات بشأنه، يعني أن الحديث عن تسوية طويلة الأمد بين واشنطن وطهران لم يعد من قبيل التقديرات النظرية، بل يلامس مستوى البحث الجدي.
يمكن القول إن التطورات التي تلت زيارة لاريجاني اوحت انها أعادت إحياء
النقاش حول موقع إيران ودورها، ليس فقط في لبنان، بل في كامل الإقليم. التبدلات في الخطابين الأميركي والإسرائيلي تعكس إدراكًا متزايدًا بأن أي تسوية مستقبلية لا يمكن أن تتجاوز طهران ولا يمكن أن تُبنى على إضعافها التام. المرحلة المقبلة قد تحمل بوادر تفاهمات جديدة، لكنها في الوقت نفسه تبقى مفتوحة على احتمالات التصعيد إذا ما تعثرت المساعي. وهذا ما يجعل لبنان، مرة جديدة، ساحة متقدمة للتجاذبات التي تتخطى حدوده نحو المشهد الإقليمي برمّته.