Advertisement

لبنان

"مطابخ الشبح" في لبنان: طعام يصل بلا عنوان… و"مخاطرة يراها الزبون متأخرًا

بولين أبو شقرا - Pauline Abou Chakra

|
Lebanon 24
24-08-2025 | 09:30
A-
A+
Doc-P-1408305-638916203292800307.webp
Doc-P-1408305-638916203292800307.webp photos 0
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
لم يعد اسم المطعم على واجهة مضاءة شرطًا لوصول وجبةٍ ساخنة إلى باب المنزل. في مدن لبنان الكبرى، تمدّدت خلال العامين الأخيرين ظاهرة "مطابخ الشبح": مطاعم بلا صالة وواجهة، تعيش كليًّا على تطبيقات التوصيل وحسابات إنستغرام، وتبدّل علاماتها التجارية بوتيرة أسبوعية. الزبون يختار صورةً مغرية واسمًا جذّابًا، لكن خلف الكيس المطبوع قد لا يكون هناك أكثر من مطبخ صغير يُنتج عدة "ماركات" في آنٍ واحد، يغيّر الاسم إذا ساءت التقييمات، ويغلق الحساب إذا تكررت الشكاوى.
Advertisement

هذا النموذج وُلد من رحم الأزمة: إيجارات مرتفعة، أكلاف طاقة ساحقة، وتراجع قدرة المستهلك على الجلوس في المطاعم. مطبخ الشبح يخفّض الكلفة إلى الحدّ الأدنى ويستثمر في "الخوارزمية" بدل السمعة التقليدية. لكن الاقتصاد الرشيق يحمل معه فراغًا تنظيميًا: التراخيص تُمنح عادةً لمطاعم بواجهات معلومة وعناوين واضحة، فيما يعمل جزء من هذه المطابخ في شقق ومستودعات وأقبية لا تستوفي شروط العيّنات الدورية، ولا تمرّ عليها جداول التفتيش نفسها التي تُطبّق على المطاعم التقليدية.

شبهات السلامة الغذائية تضاعف الخطورة. فمع رصد حالات تسمّم غذائي أخيرًا، برزت قضية ضبط أكثر من عشرة أطنان من الدجاج الفاسد كانت في طريقها إلى السوق، ما يفتح سؤالًا مباشرًا: إلى أي مطابخ كانت ستصل؟ وكيف يمكن تتبّع وجهتها النهائية إذا كان جزء من قنوات التصريف يعمل تحت أسماء متبدّلة وعناوين غير مُعلنة؟ في سوقٍ ناضج، تُجاب هذه الأسئلة عبر سلاسل توريد قابلة للتتبّع: أرقام دفعات (LOT)، فواتير مرفقة بشهادات منشأ وبرادات موثّقة، وسجلات تسليم لكل مطبخ. أما في الواقع اللبناني، فالكثير من هذه الحلقات يبقى شفهيًا أو متناثرًا بين تطبيقات ووسطاء توصيل وسائقين مستقلّين، ما يجعل التحقيق بعد وقوع الضرر مهمة معقدة، ويترك المستهلك من دون جهةٍ يطرق بابها للمطالبة بحقه.

المشكلة لا تقف عند مصدر المادة الأولية، بل تمتد إلى "سلسلة البرودة" بين المطبخ والباب. حرارة صيفٍ تقارب الأربعين، وساعات ذروة خانقة، وحقائب توصيل غير معزولة بما يكفي: كلّها عوامل ترفع احتمالات فساد الأطعمة الحساسة خلال مسافات قصيرة إذا لم تُحترم معايير زمن الحرارة الصارمة. المطاعم التقليدية تخضع لهذه المتطلبات تحت رقابة أبنية معروفة ومختبرات بلدية أو وزارية، بينما يتوارى جزء من "مطابخ الشبح" خلف أسماء مكرّرة وصور مُلمَّعة، من دون ملصق واحد يذكر درجة حفظ الطعام عند التسليم أو زمن إعداده.

في الجانب القانوني، يدور الاشتباك حول سؤالين بسيطين: من هو "المشغّل الفعلي" الذي يتحمّل المسؤولية عند وقوع أذى؟ وما هي الرخصة التي يعمل بموجبها حين لا يقدّم خدمة استقبال زبائن بل إنتاجًا محضرا للتوصيل؟ الواقع الراهن يتيح التملّص بسهولة: علامةٌ تجارية مُستحدثة تُسجّل على عجل، حساب إعلان يُضخّ له بعض المال، وعقد خدمات مع تطبيق توصيل لا يُظهر للزبون اسم الشركة المالِكة ولا رقم رخصتها الصحية ولا تاريخ آخر تفتيش. عند أول أزمة، تُمحى العلامة ويُفتح حساب جديد باسم جديد، فيما تبقى العناوين المخفية خارج متناول المتضرّرين.
هذا لا يعني أن نموذج المطابخ السحابية شرير بطبيعته. في أسواق كثيرة، تحوّل إلى ذراعٍ فعّالة توفّر فرص عمل وتمنح المطاعم التقليدية قدرةً على التوسّع بأكلاف أقلّ. الفارق بين "حلّ ذكي" و"منفذ فوضوي" هو الشفافية وصرامة التطبيق. ما يحتاجه لبنان واضح: كشف الهوية الغذائية. أي كيس يصل إلى المنزل يجب أن يحمل اسم المشغّل القانوني، رقمه الضريبي، عنوان المطبخ الفعلي، ورقم رخصته الصحية. تطبيقات التوصيل مطالَبة بإظهار هذه البيانات في صفحة المطعم، ونشر تاريخ آخر تفتيش ونتيجته، وتمكين المستهلك من الإبلاغ المباشر برقم شحنة يمكن تتبّعه. ومن جهة السلطات، المطلوب إدراج مطابخ الشبح ضمن جداول التفتيش الدورية كـ"مطابخ مركزية للإنتاج" لا كـ"مطاعم للتقديم"، بما يفرض معايير خاصة للتخزين والنظافة وإدارة النفايات والاختبارات الميكروبيولوجية.

في الجوهر، القضية ليست حربًا على نموذج اقتصادي جديد، بل دفاعًا عن حقٍ قديم: أن يعرف اللبناني ماذا يأكل، ومن أعدّ طعامه، وكيف حُفظ ووصل إليه. المطابخ التي تختار الشفافية والالتزام ستبقى وتكبر، أما تلك التي تختبئ وراء أسماء لامعة تتبدّل كل أسبوع، فمكانها ليس على شاشة التطبيق… بل خارج السوق. لأن وجبة تصل بلا عنوانٍ واضح قد تحمل معها أكثر من نكهة سيئة: قد تحمل مخاطرة لا يراها الزبون إلا متأخرًا، حين يصبح البحث عن المسؤول جزءًا من معاناةٍ لا يُفترض أن ترافق طبقًا سخنًا في بلدٍ يُفترض أن يعرف جيدًا معنى السلامة على المائدة.
 
مواضيع ذات صلة
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك

بولين أبو شقرا - Pauline Abou Chakra