مرّة أخرى، يخطف الموفد الأميركي توم براك، جنبًا إلى جنب من سبقته في المنصب، مورغان أورتاغوس، الأضواء بزيارة أخرى وُصِفت بالمفصليّة، سواء بالمضمون السياسي الذي انطوت عليه، والرسائل التي حملتها، ولا سيما أنها جاءت بعد زيارة إلى تل أبيب، التقى خلالها رئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو حتى بالهوامش التي فتحتها، خصوصًا مع خروج المبعوث الأميركي للمرة الأولى عن طوره، حين هاجم الصحافيين.
ومن خلال اللقاءات المختلفة التي عقدها براك وأورتاغوس مع المسؤولين اللبنانيين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية جوزاف عون، يمكن القول إنّ الإدارة الأميركية لا تزال مصرّة على استكمال الوساطة التي تقودها منذ أشهر لإنهاء الحرب جذريًا، لكن وفق معايير ومفاهيم جديدة، يمكن اختصارها بمعادلة "نزع سلاح
حزب الله أولاً"، استنادًا* إلى نتائج الزيارة التي أجراها براك إلى
إسرائيل، والتصريحات التي صدرت في أعقابها، خصوصًا من جانب نتنياهو.
ولعلّ "الرسالة" اتي حملتها زيارة الوفد الأميركي إلى
بيروت تبدو واضحة: أي انسحاب إسرائيلي من النقاط المحتلة في الجنوب مشروط بخطوات لبنانية ملموسة على طريق تجريد الحزب من سلاحه. فهل يعني ذلك أنّ معادلة جديدة تكوّنت بموجب هذه الزيارة تقلب منطق "الانسحاب قبل السلاح" الذي يتمسّك به الثنائي الشيعي، أو حتى نظرية "الخطوات المتوازية"، وذلك لمصلحة معادلة أميركية – إسرائيلية صريحة، قوامها "السلاح أولاً"؟!
"خطوة مقابل خطوة".. لكن بشروط
على هامش الزيارة، حرص الموفدان الأميركيان إلى إبداء مسحة من التفاؤل، لكن مع التشديد على الفعل، باعتبار أنّ المرحلة لم تعد مرحلة وعود، بل زمن أفعال. وفي هذا السياق، يأتي حديث أورتاغوس عن "قرار تاريخي" اتخذته الحكومة
اللبنانية حين كلفت الجيش وضع خطة شاملة لنزع سلاح الحزب قبل نهاية العام، واعتبرت أنّ واشنطن ستشجع إسرائيل على اتخاذ خطوات مقابلة "كلما تحرّكت بيروت".
أما براك، فربط بشكل مباشر بين خطة الجيش المرتقبة حول السلاح في ضوء قرارات جلسة الحكومة في 5 آب، وبين إعلان إسرائيل استعدادها للانسحاب من "النقاط الخمس" جنوبًا، ولو بصورة "تدريجية"، بما يكرّس عمليًا مبدأ "حرية الحركة" التي تصرّ عليها تل أبيب منذ اليوم الأول للحرب، حتى إنّه ذهب لحدّ التلويح بمشاريع اقتصادية وصندوق لدعم
لبنان، شرط أن يسلك طريق "التخلّص من السلاح"، على حدّ وصفه.
في المقابل، بدا كلام أعضاء الكونغرس المرافقين لبراك وأورتاغوس – مثل ليندسي غراهام وجين شاهين – أكثر صلابة. فقد ذهب غراهام حدّ القول إنّ "الحديث عن انسحاب إسرائيلي قبل نزع سلاح حزب الله لا معنى له"، معتبرًا في الوقت نفسه، أنّ على لبنان أن ينزع السلاح لأنه "أفضل له"، وليس كمقابل لإسرائيل، وهو ما يندرج في سياق ضغوط قصوى تتقاطع على فكرة أنّ لبنان لن يحصد أيّ مكسب حقيقي، قبل إنجاز استحقاق السلاح.
ماذا عن موقف بري و"حزب الله"؟
رغم ذلك، يمكن القول إنّ الموقف اللبناني لم يكن موحدًا، ففيما شكر الرئيس جوزيف عون الوفد على دعمه، مؤكّدًا التزامه باتفاق وقف النار و"الورقة اللبنانية – الأميركية"، وكرّر رئيس الحكومة نواف سلام الحديث عن "حصر السلاح بيد الدولة"، خرجت من عين التينة نبرة مختلفة، بحسب التسريبات الصحفية التي أشارت إلى أنّ الرئيس
نبيه بري شدّد أمام الموفدين
الأميركيين على أنّ إسرائيل هي المعتدية، وأنّ الأولوية يجب أن تكون بانسحابها ووقف عدوانها، لا بفرض شروط مسبقة على لبنان.
وعلى ضفة "حزب الله"، لا يبدو أنّ أيّ مرونة طرأت على موقفه المعلَن في تصريحات قيادييه، وآخرها خطاب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم هذا الأسبوع، الذي جدّد تأكيد رفض التخلي عن السلاح، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ كل حديث عن "إقناع الحزب" بالتخلي عن ترسانته، كما يروّج البعض في لبنان، خارج السياق الواقعي والمنطقي أيضًا، وذلك ما دام الحزب يعتبر سلاحه ركيزة وجودية في مواجهة إسرائيل ومشروعها.
وسط هذا التجاذب، تبرز المؤسسة العسكرية كعنصر حاسم. فالجيش مكلّف بوضع خطة نزع السلاح وعرضها على
مجلس الوزراء خلال أيام، وهو ما يجعله في موقع الاختبار: كيف يمكن أن يصوغ مقترحًا يوازن بين التزامات الحكومة أمام واشنطن، وبين الواقع الداخلي في ظلّ رفض الحزب مبدأ النقاش في سلاحه من الأساس، وهو ما يضع الجيش أمام تحديات غير مسبوقة، يُخشى أن تمسّ موقعه كعامل توازن داخلي وضامن للاستقرار.
الوقائع كلها توحي بأنّ الأفق ليس مفتوحًا على حلول سريعة. إسرائيل تتصرّف من موقع القوة، رافضة أي انسحاب قبل ضمان نزع السلاح، فيما واشنطن تضغط لإلزام لبنان بترجمة قراراته. في المقابل، يرفع بري وحزب الله السقف رفضًا لأي شروط أحادية، معتبرين أنّ ما قدّمته الدولة كافٍ. بين الطرفين، يقف لبنان الرسمي والجيش أمام امتحان مصيري: إما أن يشقّا مسارًا جديدًا يعيد ترتيب المعادلة، أو أن ينزلق البلد إلى أزمة أعمق تهدد استقراره الداخلي وحدوده الجنوبية معًا.