التنمّر، كلمة قصيرة بحروفها، لكنها ثقيلة بجروحها وآثارها. ليست مجرّد تصرّف عابر، بل ندبة تبقى عالقة في أعماق كل من يختبرها. قد يظنّ البعض أنّهم تجاوزوا التجربة أو تخطّوها، لكن شظاياها تظلّ مخبأة في زوايا الروح، تظهر في لحظات وسلوكيات، كصوت خافت يذكّر بما كان. ومعظمنا، بطريقة أو بأخرى، ذاق طعم التنمّر: جسديًا، لفظيًا، أو حتى عبر تصرفات جارحة تُلقي بثقلها على القلب وتثير الغضب.
وفي
لبنان، البلد الذي صُنّف بين الأكثر تعاسة عالميًا، ما زال الغياب تامًا لأيّ قانون يحمي المواطنين من هذه الظاهرة، على الرغم من أن آخر الإحصاءات كشفت أنّ أكثر من 50% من الأطفال في لبنان تعرّضوا للتنمّر في مرحلة ما من حياتهم، سواء كان لفظيًا أو جسديًا.
تداعيات التنمّر على الفرد
من الناحية النفسية، يولّد التنمّر شعورًا دائمًا بالدونية وفقدان الثقة بالنفس، ويزرع الخوف والقلق والاكتئاب الذي قد يصل في بعض الحالات إلى التفكير بالانتحار، فضلًا عن اضطرابات النوم وما يرافقها من أرق وكوابيس.
وعلى الصعيد الاجتماعي، يدفع الضحية إلى الانعزال والانطواء، فيبتعد عن أصدقائه وأنشطته، ويجد صعوبة لاحقًا في بناء علاقات صحية وسليمة، كما يفقد الحافز على المشاركة في المجتمع أو متابعة دراسته وعمله.
أمّا جسديًا، فتنعكس الضغوط النفسية في آلام متكرّرة في الرأس أو المعدة، وفي تراجع التركيز والأداء الدراسي أو العملي، إضافةً إلى اضطرابات في الشهية قد تظهر على شكل فقدان الرغبة في الأكل أو الإفراط فيه.
اقتراح قانون لتجريم التنمّر
أمام هذا الواقع، قرّر النائب هاكوب ترزيان كسر الصمت، فتقدّم باقتراح قانون يجرّم التنمّر، بعد مشاورات مع فاعليات اجتماعية، تربوية وحقوقية، واضعًا القضية على طاولة
النقاش التشريعي علّها تتحوّل إلى حماية حقيقية للمستضعفين.
وفي حديث لـ "
لبنان 24"، أوضح ترزيان أنّ التنمّر بات ظاهرة مزمنة، لافتًا إلى أنّ قانون
العقوبات اللبناني الصادر بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 340 يتضمّن معظم مواد الردع لكنه لا يتطرّق بشكل صريح إلى موضوع التنمّر، ومن هنا جاء اقتراحه بإضافة تعديل واضح.
واعتبر أنّ التنمّر، سواء كان لفظيًا أو جسديًا، هو سلوك عدائي يستوجب عقوبات رادعة، مشيرًا إلى أنّ الاقتراح سيُعرض أولًا على اللجان النيابية المختصّة ثم على اللجان المشتركة قبل وصوله إلى الهيئة العامة لمجلس النواب حيث قد يخضع لتعديلات قبل إقراره.
تفاصيل اقتراح القانون
ترزيان شدّد على أنّ الهدف من القانون ليس الاكتفاء بفتح المجال أمام شكاوى فردية، بل حماية الانتظام العام ووضع معايير واضحة للقضاة لتحديد ما إذا كانت الأفعال المرتكبة تدخل ضمن التنمّر، ولا سيما في الحالات التي تُمارَس بشكل متكرّر ومنهجي وتترك أثرًا نفسيًا عميقًا على الضحية، والّتي تختلف عن كونها "مزحة عابرة".
وأوضح أنّ هذا القانون في حال اقراره، سيطال العديد من أشكال التنمّر، من ضمنها استغلال علاقة غير متوازنة، حيث يستفيد الجاني من تفوّق مادي أو سلطوي أو اجتماعي لإهانة الضحية أو عزلها، مرورًا بالأذى النفسي والمعنوي والاجتماعي الذي يُعتبر الأخطر لصعوبة إثباته بالوسائل التقليدية، وصولًا إلى التنمّر الإلكتروني الذي تفاقم مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي عبر صور وتعليقات جارحة متكرّرة تُنشر على العلن في غياب أدوات قانونية رادعة.
العقوبات على جريمة التنمّر
أما في ما يتعلّق بالعقوبات، فإن اقتراح القانون ينص على حبس المتنمّر من 5 أشهر إلى سنتين، أو تغريمه بما يتراوح بين 3 و10 أضعاف الحد الأدنى للأجور (وهو حاليًا، 28 مليون
ليرة لبنانية ما يوازي 312 دولارًا)، أو الجمع بين العقوبتين.
وتُضاعَف العقوبة في حالات عدّة أبرزها إذا كان الضحية قاصرًا أو من ذوي الإعاقة أو عاجزًا عن الدفاع عن نفسه بسبب وضعه الجسدي أو النفسي أو إذا كانت امرأة تعرّضت للتنمّر على خلفية جنسها، وكذلك في حال امتلك الجاني سلطة مادية أو معنوية أو تعليمية على الضحية، أو إذا أدى التنمّر إلى انقطاعها عن التعليم أو العمل أو حياتها الاجتماعية، أو عندما يُرتكب الفعل من أكثر من شخص أو باستخدام وسائل إلكترونية تُعرّض الضحية للإهانة العلنية.
ورغم الانتقادات التي وُجّهت للاقتراح بحجة أنّ هناك قضايا أكثر إلحاحًا في البلاد، أكّد ترزيان أنّ ذلك لا يمنع المضي في إقرار القانون بالتوازي مع ملفات أساسية أخرى.
كما دعا إلى مرافقة القانون بحملات توعية شاملة في المدارس والجامعات، محمّلًا الطاقم التعليمي مسؤولية مواجهة هذه الظاهرة داخل المؤسسات التربوية.
في المحصّلة، يبقى هذا الاقتراح خطوة ملحّة لا غنى عنها، لوضع حدّ لظاهرة يطول أثرها وتتشعّب تداعياتها. فهل سيكون إقراره في القريب العاجل؟