لم يكن خطاب
رئيس مجلس النواب نبيه بري، في الذكرى السابعة والأربعين لتغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، مجرّد مناسبة رمزية أو طقسًا سياسيًا متكرّرًا في كلّ عام، إذ إنّ الكلمة التي ألقاها عصر الأحد تقاطعت مع واحدة من أكثر اللحظات حساسية في
لبنان: تصعيد إسرائيلي واسع في الجنوب، ضغوط أميركية متزايدة بشأن ملف سلاح
حزب الله، وانقسام داخلي حول أولويات المرحلة المقبلة.
بهذا المعنى، بدا بري وكأنه يختار توقيتًا مقصودًا لإعادة رسم خطوط التوازن بين الداخل والخارج، بين الدولة والمقاومة، وبين الانفتاح على الحوار والتمسّك بسقف لا يمكن تجاوزه. ولعلّ السياق العام الذي أحاط بالكلمة يكفي لعكس حجم التحديات، بين الخروقات
الإسرائيلية لوقف إطلاق النار، والورقة الأميركية المثيرة للجدل، والانقسام الداخلي العمودي الذي كاد يفجّر بالحكومة، ويطيح بها قبل أن تحقّق ما جاءت لأجله.
إلا أنّ الإشكالية التي طرحها خطاب بري تتجاوز مضمون التصريحات لتلامس جوهر اللحظة السياسية: كيف يمكن للبنان أن يفتح نقاشًا وطنيًا هادئًا حول الاستراتيجية الدفاعية ومستقبل السلاح، من دون أن يظهر خاضعًا لإملاءات الخارج، ومن دون أن يتسبّب في هزّ التوازنات الداخلية الهشّة؟ هل يمكن لهذا الانفتاح المشروط أن يشكّل مخرجًا مرحليًا، أم أنّه مجرد محاولة لتأجيل الانفجار بانتظار ظروف إقليمية ودولية أكثر ملاءمة؟
الانفتاح المشروط
أبرز ما شدّد عليه
بري هو أنّ حركة أمل وبيئتها السياسية ليست في موقع الرافض المطلق لمناقشة مستقبل السلاح، بل هي منفتحة على هذا النقاش شرط أن يجري ضمن إطار الاستراتيجية الدفاعية الوطنية، أي في إطار لبناني – لبناني بعيدًا عن أي أجندة خارجية. إلا أنّ هذا الانفتاح جاء مقرونًا بشرط أساسي: لا يمكن ربط النقاش بجدول زمني ملزِم أو وضعه في خانة الشروط الأميركية.
بمعنى آخر، أراد بري أن يرسل إشارة مزدوجة: لا مانع من النقاش، لكن لا قبول بالتوقيت أو الشكل الذي يريده الخارج. وبهذا الموقف، يحاول رئيس مجلس النواب أن يوازن مرّة أخرى بين الاعتراف بالضغوط الدولية وبين الحفاظ على موقع المقاومة كجزء من منظومة الردع، وهو بذلك أيضًا يفتح الباب سياسيًا من دون أن يقدّم تنازلًا جوهريًا، مقدّمًا نموذجًا للمرونة المحسوبة التي عُرف بها عبر عقود من العمل السياسي.
ولعلّ هذه المرونة برزت في كلام بري، حتى حين تحدّث عن الورقة الأميركية، بما حملته من تصوّرات لإعادة هيكلة الوضع الأمني والعسكري في لبنان، فهو كان واضحًا برفضه تحميل الجيش"كرة النار"، كما أصرّ على أنّ الحوار الداخلي هو وحده القادر على إنتاج حلول، وليس الضغوط أو الإملاءات، وهو في ذلك يتلاقى إلى حدّ بعيد مع موقف "حزب الله" الذي أيّد النقاش حول الاستراتيجية الدفاعية، لكن بعد انتهاء العدوان.
الرسائل الداخلية
في الداخل، حمل خطاب بري أكثر من رسالة، الأولى موجّهة إلى شركائه في الحكم، حيث حذّر من "التنمّر السياسي" ومن محاولات اللعب بالميثاقية أو تجاوزها. أما الثانية فوجّهها إلى حلفائه في البيئة الشيعية، حيث شدّد على أنّ لا نية لتحريك الشارع أو مقاطعة
مجلس الوزراء، في إشارة إلى الحرص على إبقاء الحكومة قائمة كإطار ضروري لإدارة المرحلة. ولعلّ بري هنا يكرّس نفسه كصمام أمان، فهو يرفض التصعيد في الشارع، ويدعو إلى إبقاء المؤسسات الدستورية حيّة. وفي الوقت نفسه، يحافظ على موقعه كمدافع شرس عن المقاومة، رافضًا أي محاولة لفصلها عن النسيج الوطني.
هذه الازدواجية، إن صحّ التعبير، ليست جديدة في سلوك بري، لكنها تزداد أهمية في ظل الانقسام الحاد الذي تشهده البلاد في هذه المرحلة، علمًا أنّ تزامن الخطاب مع تصعيد إسرائيلي واسع في الجنوب، ولو أضحى روتينًا، لا يُعَدّ تفصيلاً، إذ إنّ هذا الواقع هو الذي يجعل من السلاح مسألة تتجاوز النقاش الداخلي لتصبح جزءًا من معادلة إقليمية أكبر، وهو ما يفسّر ربما الاستنفار
الغربي والعالمي من أجل حسم ملف السلاح.
من هنا، يصرّ بري كما "حزب الله"، على أنّ المقاومة ليست خيارًا سياسيًا عابرًا، بل ضرورة وجودية في مواجهة
إسرائيل. ومن هنا، فإنّ أي نقاش داخلي حول السلاح لا يمكن فصله عن هذه المعركة المفتوحة، وفق أصحاب هذا الرأي، الذين يعتبرون أنّ إسرائيل، بمحاولاتها فرض معادلة ردع جديدة عبر التصعيد، تدفع أكثر باتجاه تثبيت موقع المقاومة. وهذا ما يجعل أي ورقة خارجية تتحدّث عن نزع السلاح أشبه بمحاولة لإضعاف لبنان في ذروة التهديد، وفق قولهم.
هكذا، يقدّم خطاب
نبيه بري محاولة لاحتواء الضغوط وتوجيهها نحو طاولة لبنانية داخلية، بدل أن تتحوّل إلى فرض خارجي أو صدام داخلي. هو خطاب يكرّس عقلية "التدوير" التي عُرف بها بري: التخفيف من حدّة الانقسامات، إبقاء قنوات الحوار مفتوحة، وتثبيت موقعه كوسيط وضامن. لكن يبقى السؤال: هل يكفي هذا الانفتاح المشروط لطمأنة الخارج واحتواء الداخل، أم أنّ النقاش حول السلاح سيفتح على مرحلة أكثر تعقيدًا في لبنان؟!