بعدما كان اللبنانيون ينتظرون زيارة وفد وزاري سوري تأجّلت مرارًا وتكرارًا منذ تسلّم الإدارة الجديدة الحكم، حطّ وفد "تقني" في
بيروت، حيث التقى
نائب رئيس الحكومة طارق متري، قبل أن يُعلَن عن قرارٍ بتشكيل لجنتين مختصّتين: أولى قضائية تُعنى بملف الموقوفين، وثانية حدودية تتناول ضبط المعابر والترسيم. ومع أن الخطوة تمهّد لزيارة وزارية قريبة، يبقى سؤال اللحظة: لماذا لم تحصل الزيارة حتى الآن، فيما تنشط دمشق باتجاه عواصم عربية عدّة؟
على طاولة اللجنتين ملفات تبدو "ثقيلة": الموقوفون السوريون في السجون
اللبنانية، المفقودون اللبنانيون في
سوريا، وضبط الحدود ومنع التهريب، إضافة إلى مراجعة الاتفاقات الثنائية وتحسينها، بما يفتح الباب لتعاون اقتصادي وأمني أكثر انتظامًا. بهذا المعنى، لا يقتصر دور اللجنتين على "تقنية تفاوضية"، بل هما آليّة لتدشين أطر قانونية جديدة تعيد ترتيب العلاقة على أسس مؤسساتية بدل المعالجات الظرفية.
وليس خافيًا على أحد أنّ الملف القضائي هو الأكثر حساسيةً وقابليةً للتسييس، وهو ما جرى أساسًا قبل فترة حين تعمّد البعض تسريب الحديث عن "استياء" سوري قد يصل لحدّ اتخاذ "إجراءات". ففي
لبنان أكثر من ألفي موقوف سوري، بينهم نحو 800 موقوفون على ذمّة قضايا أمنية، وهو رقم يضاعف الضغوط الداخليّة ويستدعي مسارًا قانونيًا محكمًا لأيّ تسليم أو استرداد، فهل تدخل الأمور خانة "الحلحلة"، بالقانون؟!
لماذا تأخرت الزيارة الوزارية؟
قبل الحديث عن اللجنتين المنتظرتين وعن الملفات العالقة، لا بدّ من التوقف عند أسباب تأخّر الزيارة الوزارية
السورية إلى لبنان، خصوصًا أنّ الإدارة الجديدة في سوريا تقوم منذ وصولها إلى الحكم بزيارات مكثّفة إلى معظم الدول العربية، فيما لا يزال لبنان وهو الأقرَب إليها، مستثنى من "الأجندة"، وعلى الرغم من أنّ المسؤولين اللبنانيين زاروا دمشق خلال الأشهر الأخيرة، وبينهم رئيسا الحكومة الحالي نواف سلام، والسابق
نجيب ميقاتي.
ويتحدّث العارفون عن أسباب "متداخلة" تقف خلف هذا التأخير، أولها ما يمكن وصفه بخيار "التهدئة التقنية"، إذ إنّ الإدارة السورية الجديدة تبدو ماضية في سياسة تفكيك الألغام عبر قنوات تقنية قبل الانتقال إلى الإعلانات السياسية الكبيرة. ولعلّ إبقاء اللقاء بعيدًا عن الصخب الإعلامي، والتركيز على اللجان، مؤشّران على تفضيل "الإنجاز الصامت" على العناوين الرنّانة. وهذا ينسجم مع حساسية الملفات المطروحة، خصوصًا الموقوفين والمفقودين، وتقاطعاتها مع قضايا داخلية لبنانية شديدة الاستقطاب.
وإلى جانب هذا البعد، تحضر عوامل أخرى، من بينها الحسابات اللبنانية، إذ إنّ أيّ تفاهم قضائي يحتاج أكثرية نيابية لإقراره، ويصعب تمريره بلا مظلّة سياسية واسعة تراعي اختلاف مقاربات القوى حيال العلاقة مع دمشق، كما أن ملف الحدود يفتح تلقائيًا على مكافحة التهريب، وتوزّع مراكز النفوذ على جانبي الحدود، وهو ما يحتاج وقتًا ومسارات تنسيقٍ أمنية واقتصادية موازية كي لا يتحوّل إلى مادة تجاذب، من دون أن ننسى أيضًا الربط بملف النزوح، خصوصًا أنّ عودة اللاجئين باتت بندًا ثابتًا في أي أجندة لبنانية–سورية.
أرقام ضاغطة ورسائل سياسية
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ الاتفاق على اللجنتين هو خطوة أولى في مسار العلاقات اللبنانية السورية الجديدة، علمًا أنّ الإدارة الجديدة تتمسّك بضرورة حلّ ملف الموقوفين السوريين في لبنان قبل أيّ بحث أو نقاش، وهي تحرص في هذا السياق على توجيه رسالة إلى المسؤولين مفادها أنّ "العلاقة الجديدة" مع لبنان لن تكون تكرارًا لزمن الوصاية، بل تُبنى على اتفاقات مكتوبة ومراجعة منظّمة للإرث السابق.
وعلى خط الحدود، لا يبدو الأمر أقلّ تعقيدًا، إذ إنّ أيّ اتفاق حدودي جدّي يحتاج إلى مسح تقني وتبادل بيانات وتحديد نقاط الخلل، وصولًا إلى آليات مشتركة للمراقبة والتجمرك والتعهّدات العقابية بحق شبكات التهريب. لذلك يمكن فهم تشكيل اللجنة الحدودية كخطوة نحو "تقنين" ما ظلّ طويلًا تحت خانة التفاهمات الظرفية، وربطه لاحقًا بمساراتٍ اقتصادية (ترانزيت، طاقة، وتجارة) تُحفّز الطرفين على الالتزام.
هنا أيضًا، يفسّر الطابع العملي للّجنة سبب تأجيل الزيارة الوزارية: ما لم تُنجز الخرائط والملفات التقنية، ستبدو الزيارة مجرّد صورة تذكارية،بحسب ما يقول العارفون الذين يلفتون إلى أنّ أحد دروس العقد الماضي أنّ العلاقات اللبنانية–السورية لا تُدار بالشعارات. ولهذا السبب، تبدو الإدارة السورية الجديدة في حاجةٍ إلى اتفاقات تُظهر انتقالها من عقلية "الإدارة الأمنية" إلى نموذج "التنظيم المؤسسي"، فيما يحتاج لبنان إلى مظلّة قانونية تحصّنه أمام
القضاء الدولي والرأي العام والمنظمات الحقوقية، وتخفّف عنه أثمان الفوضى الحدودية.
إذا نجحت اللجنتان في إنتاج مسودّتَين واضحتَين، قضائية وحدودية، تصبح الزيارة الوزارية المُنتظرة أكثر من "إشارة سياسية"، وإنما تتويجًا لمسار تقني–تشريعي قادر على الصمود أمام العواصف اليومية في بيروت ودمشق على حد سواء. أما الفشل في تثبيت هذا المسار فسيعيد النقاش إلى دائرة الشكوك القديمة: خشية الداخل اللبناني من كلفةٍ سياسية وقانونية غير محسوبة، وتوجّس سوري من أن تتحوّل الملفات إلى أوراق ضغط لا تُنجز. وبين هذين الحدّين، تبقى الكلمة الفصل للّجان..