لم يعد عيد ميلاد طفل، أو تخرّج صغير، أو حتى إعلان جنس مولود، مجرّد مناسبة عائلية دافئة يُحتفل بها ببساطة. اليوم، فرضت وسائل التواصل الاجتماعي نوعًا جديدًا من المناسبات لم يكن موجودًا قبل عشر سنوات: كحفلات "أول قصة شعر"، "أول يوم تعارف"، بل وحتى "حفلات الطلاق". هذه المناسبات المستحدثة خرجت من إطار اللحظة البسيطة، لتتحول إلى استعراض اجتماعي ضخم: قاعات مزينة بالورود، ديكورات تُشبه حفلات الزفاف، فساتين مُخصّصة للمناسبة، وتصوير محترف لا يقلّ عن إنتاج إعلان تجاري.
يرى خبراء الاجتماع أن هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ، بل غذّته وسائل التواصل الاجتماعي التي فرضت نمطًا جديدًا من الاحتفالات قائمًا على التوثيق والمقارنة. فالمناسبة لم تعد للاحتفال فقط، بل لعرضها على "
فيسبوك"، "إنستغرام" و"تيك توك"، حيث يتنافس الناس على من يملك "الأجمل" و"الأفخم".
توضح الأخصائية النفسية الدكتورة
غدير جميل أن الاحتفالات المبالغ فيها لم تعد مجرد ممارسات اجتماعية عابرة، بل أصبحت تترك آثارًا نفسية عميقة على الأفراد والعائلات. فالإفراط في الاستعراض يولّد شعورًا بالنقص أو الإحباط لدى من لا يستطيعون مجاراة هذا النمط، ما قد يدفعهم إلى العزلة أو الامتناع عن دعوة الآخرين خوفًا من المقارنة أو
من نظرة المجتمع.
وتشير إلى أن "ضغوط المقارنة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تُعدّ من أبرز العوامل التي تؤثر سلبًا على الأهل والشباب على حدّ سواء. فالشباب قد يشعرون بالدونية، فيما يرى بعضهم أن ما يعرضه المشاهير والمؤثرون هو "الحقيقة" التي يجب اللحاق بها، ما يخلق لديهم هوسًا بالمظاهر، من عمليات تجميل ومكياج وصور مثالية، ويؤثر حتى على علاقاتهم الشخصية وحياتهم الزوجية لاحقًا".
وتضيف: "أما الأهل، فيعيشون ضغطًا مضاعفًا نتيجة شعور أبنائهم بأنهم مقصّرون لعدم تلبية مطالب لم تعد تُعتبر كماليات بل صارت بنظرهم حاجات أساسية".
وترى جميل أن الحل يكمن في تعزيز الوعي للتركيز على المعنى بدل المظاهر، بدءًا من البيت، مرورًا بدور المدرسة، وصولًا إلى ما يُعرض عبر
وسائل الإعلام ومواقع التواصل. وتدعو إلى الاستثمار في أنشطة تنمّي العقول وتُمتع القلوب مثل القراءة، المحاضرات، أو الأنشطة الاجتماعية، بدل الانغماس في المحتوى السطحي الذي يغزو الشاشات اليوم. وتعتبر أن هذه الخطوة ليست فقط ضرورة تربوية، بل واجب لحماية المجتمع من "حرب ناعمة" تغيّر عاداته وتقاليده وتدفعه نحو تقليد أنماط بعيدة عن واقعه وهويته.
من جهتهم، يعترف منظّمو الحفلات أن طلبات الزبائن تغيّرت بشكل كبير. وتقول فاطمة، وهي منظِّمة حفلات منذ حوالي العشر سنوات: "لم يعد الناس يطلبون فقط حفلات أعياد ميلاد أو تخرّج، بل صرنا ننظّم مناسبات لم تكن موجودة أصلًا: أول قصة شعر للطفل، أول يوم تعارف بين شريكين، وحتى حفلات طلاق. الكل يريد تفاصيل مُصممة خصيصًا لتظهر مثالية على الصور والفيديوهات". وتضيف أن "الموضة لم تعد فقط في اللباس، بل في شكل الكوشة، ألوان الزينة، وحتى نوعية الهدايا التذكارية".
في السياق نفسه، لا يمكن النفي أن هذه الظاهرة لا تخلو من الإيجابيات، إذ خلقت فرص عمل لمئات من المصورين ومصمّمي الديكور ومنظّمي المناسبات، ووفّرت للعائلات صورًا وذكريات جميلة تبقى مدى العمر.
في الجهة المقابلة، هناك الناس الذين لا يستطيعون إقامة حفلات مبالغ بها، فيخشون اليوم الذي سيطالبهم أولادهم بهذه المظاهر. ويقول موسى، أب لطفلين: "انا اقيم حفلات بسيطة لأولادي في أعياد ميلادهم، لا تهمني كل هذه المظاهر أشتري قالب حلوى بسيط وأحتفل مع زوجتي والأطفال، لكن وصلت لمرحلة لا أتصفح الفيسبوك براحة إلى جانب أولادي، أخاف أن يروا هذه المظاهر ويطالبونني بها يومًا ما، فأنا عامل باليومية، كل يوم انتظر رزقي الذي يكون مختلفًا عن اليوم الذي سبقه، أنا ببساطة لا أقوى على هذه المصاريف".
وفي الختام يبقى السؤال: هل الفرح الحقيقي يُقاس بعدد الورود في القاعة وكلفة الزينة، أم بدفء اللحظة وصدق المشاعر؟ ربما ما نحتاجه اليوم ليس التخلّي عن الاحتفال، بل إعادة التوازن بين البساطة والمعنى، وبين الرغبة في التوثيق وحقيقة الفرح.