ليست الفانات في
لبنان مجرد وسيلة نقل رخيصة وسريعة، بل هي عالم قائم بذاته، يحمل في داخله حكايات صغيرة تختصر ملامح المجتمع. يكفي أن تجلس في أحد مقاعدها الضيقة لتدخل مسرحاً شعبياً مفتوحاً على كل المفارقات، من ضجيج الأغاني الصاخبة إلى النقاشات العابرة بين السائق والركاب.
منذ اللحظة الأولى للصعود، يبدأ
العرض. السائق يطل من نافذته وهو ينادي الزبائن بلهجة حادة، وأحياناً يتنازع مع سائق آخر على راكب واحد. المنافسة هنا يومية، تكاد تكون جزءاً من المشهد الطبيعي للشارع. وما إن يجلس الركاب حتى يعلو صوت الأغاني من مكبرات صغيرة، خليط من الطرب الشعبي والأغنيات الحديثة، فيما يفرض السائق ذوقه الموسيقي على الجميع من دون استئذان.
المفارقة أن التدخين ممنوع على الركاب بحزم، لكن السائق لا يتردد في إشعال سيجارته، يفتح نافذته، وينفث الدخان غير عابئ بالتحذيرات. الركاب يتذمرون أحياناً، لكنهم سرعان ما يستسلمون، وكأنهم يعلمون أن اعتراضهم لن يغيّر شيئاً.
وفي قلب هذا الزحام، تنشأ أحاديث عفوية بين السائق والراكب الجالس إلى جانبه، تبدأ بسؤال عن الاتجاه أو الطقس، وقد تمتد إلى نقاشات عن السياسة، الغلاء، وحتى
كرة القدم. أما الركاب الآخرون في الخلف، فيكتفون بالاستماع أو يشاركون بنكات سريعة لكسر الملل.
ومع طول الانتظار في زحمة السيارات الخانقة، يتحول الفان إلى غرفة صغيرة يتشارك فيها الغرباء وقتاً طويلاً، فيصبحون ولو للحظات أشبه برفاق رحلة واحدة.
قد يضجر البعض من ضيق المكان وصخب الأصوات، لكن ما إن تنزل من الفان حتى تدرك أنك كنت جزءاً من مشهد حيّ يعكس يوميات اللبنانيين بتناقضاتها. فالفان ليس مجرد وسيلة نقل، بل صورة مصغّرة عن بلد يعيش بين الفوضى والابتكار، بين الشكوى والضحكة، وبين التوتر والقدرة على التعايش مع كل المفارقات.
هكذا يظل الفان اللبناني أكثر من سيارة عمومية: إنه حكاية يومية متجددة، تختصر الحياة على أربع عجلات.