لا تزال ارتدادات الكلام العاصف الذي اطلقه الموفد الأميركي توم براك عن
لبنان والجيش تتفاعل داخليا وتركزت الاهتمامات السياسية
اللبنانية الأساسية في الساعات الثماني والأربعين الأخيرة على محاولات استكشاف خلفيات هذا الكلام ،خصوصاً بعدما تكشفت الوقائع بأنه تعمّد إطلاقه قبيل لقائه والموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس رئيس الجمهورية جوزف عون في نيويورك لدى استقبال الأخير
وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو.
وكتبت" النهار": إذا كانت أي معلومات غير تلك الرسمية التي وزعتها البعثة الرئاسية اللبنانية لم تتوافر عما دار في لقاء الرئيس عون وروبيو وبرّاك وأورتاغوس، فإن الثابت أن الكلام البروتوكولي لوزير الخارجية الأميركي لم يبدّد غيوماً ملبدة شابت الأجواء السائدة بين السلطة اللبنانية وواشنطن، في ظل اعتبار
بيروت كلام برّاك بمثابة "إشعار" أميركي رسمي كامل المعايير حيال موقف سلبي للغاية من مسار حصرية السلاح كما أقرته الحكومة وكما ينفذه الجيش وفقاً للخطة المتدرجة التي وضعتها قيادته ورحب بها
مجلس الوزراء في الخامس من أيلول الحالي. وفي انتظار المعطيات التي يملكها الرئيس عون وما قد يواكب زيارته لنيويورك من لقاءات ومشاورات واتصالات مع مسؤولين أميركيين قد تحمل إيضاحات أو مواقف مختلفة عن الأجواء الصادمة التي تركها كلام برّاك، لم تخف أوساط سياسية مطلعة على المداولات التي حصلت وتواصلت بعد تصريحات برّاك بأن اجواء قلقة ومشدودة للغاية تسود المسؤولين الرسميين، تعززها مخاوف من استغلال إسرائيل هذا التطور السلبي للمضي قدماً في تصعيد عملياتها وغاراتها في لبنان، كما يستغلها أيضاً "
حزب الله" لتصعيد حملات الرفض والتهجّم والاستفزاز للحكومة، خصوصا في اسبوع إحياء سنة على اغتيال أمينيه العاميين الراحلين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين.
وكتبت" الاخبار": نقل مطّلعون أن «ما ساقه برّاك من اتهامات للدولة اللبنانية يمهّد لضربة إسرائيلية صارت حتمية»، خصوصاً أنها تتناغم مع ما عبّر عنه مسؤولون إسرائيليون سابقاً، ومع تسريبات وصلت إلى قيادة الجيش، بعد الاجتماع الأخير للجنة الـ«ميكانيزم» بحضور نائبة المبعوث الخاص للرئيس الأميركي للشرق الأوسط مورغان أورتاغوس، توحي بـ«عدم رضى أميركي على أداء الجيش».
تصريحات المبعوث الأميركي أثارت صدمة كبيرة في الأوساط السياسية، خصوصاً أنها جاءت مخالِفة تماماً للانطباع الذي كان يحمله بعض المسؤولين عن موقف برّاك السابق، إذ كان قد أشار إلى تفضيله الحوار على استخدام القوة مع حزب الله. كما أن هناك إجماعاً، بحسب المصادر، لدى الأوساط السياسية على أن «الموفدين
الأميركيين بعيدون كلّ البعد عن الدبلوماسية، وللمرة الأولى يلمس المسؤولون اللبنانيون هذا المستوى من الكذب والانقلاب على الاتفاقات، كما حصل مع برّاك الذي تعهّد أمام الرئيس نبيه بري بالحصول على تنازلات من إسرائيل على قاعدة الخطوة مقابل خطوة، قبل أن ينقلب على ما تعهّد به».
وكشفت المصادر أن «ما حمله مسؤول أممي من تل أبيب إلى بيروت نقلاً عن مسؤولين إسرائيليين بأن الأولويات
الإسرائيلية تركّز على غزة والضفة وسوريا واليمن، وأن إسرائيل لا تعتبر الملف اللبناني داهماً في الوقت الحالي، ولا تفكر بالقيام بأي عملية عسكرية، جعل السلطة في لبنان تشعر بأن هناك فترة سماح مُعطاة لها وبأنها تجاوزت مرحلة الخطر»، قبل أن تُفاجأ بهذا الموقف الأميركي المتصلّب عشية تقديم الجيش اللبناني التقرير الشهري المطلوب منه حول سير العمل في تطبيق المرحلة الأولى من خطة نزع السلاح.
وبحسب مصدر لبناني مطّلع على الاتصالات الجارية في العاصمة الأميركية، فإن تصريحات برّاك جاءت بعد سلسلة مشاورات داخل الفريق العامل إلى جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إذ لمس متصلون من اللبنانيين ببرّاك أنه «عرضة لحملة انتقادات قاسية من جانب أطراف أميركية تتبنّى وجهة النظر الإسرائيلية، وتحمّله مسؤولية عدم التشدّد مع السلطات اللبنانية، وتتّهمه بأن أسلوبه مع المسؤولين اللبنانيين يشجّعهم على المراوغة، وبأنه يكرّر في لبنان ما فعله في سوريا حين أوحى للرئيس السوري أحمد الشرع بأن الأخير يمكنه المناورة في وجه الطلبات الأميركية - الإسرائيلية، ما قاد الشرع إلى قراءة خاطئة للموقف
الإسرائيلي، وتسبّب له بمشكلة كبيرة في الجنوب السوري والسويداء».
ونقلت المصادر أن براّك أسرّ إلى شخصيات التقاها على هامش اجتماعات نيويورك بأنه «قلق جداً، ويخشى جدياً عودة الحرب الإسرائيلية على لبنان، وأنه اضطر إلى قول ما قاله في مقابلته الأخيرة لتظهير الموقف الرسمي لبلاده، ولتأكيد أنه لا يقوم بعمل مستقلّ، وليوضح للمسؤولين اللبنانيين بأن إسرائيل جادّة في برنامجها ليس لنزع سلاح حزب الله بالقوة فحسب، بل لتدفيع الدولة اللبنانية ثمن عدم قيامها بالدور المطلوب منها».
ونقلت" نداء الوطن" عن مصادر سياسية مطلعة خشيتها من أن تكون مواقف براك بمثابة إنذار يمهد الطريق لتوفير غطاء سياسي لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو لتوسيع حربه على لبنان بحجة عدم التزام تطبيق حصرية السلاح بيد الدولة، واستحالة الضغط على نتنياهو في المقابل، لفرض التزامه خطوات الورقة الأميركية التي حظيت بموافقة لبنان.
مصدر ديبلوماسي في بيروت قال لـ"الأنباء" الكويتية: "إشادة باراك بالحكومة اللبنانية واعتباره أنها مجموعة جيدة في السلطة، لم تخف الطابع الضاغط الذي تخلل حديثه حين اتهم لبنان بالاكتفاء بالكلام من دون الفعل، مطالبا إياه بإعلان نزع سلاح حزب الله. ورأى أن مثل هذا الطرح يضع الدولة أمام معادلة صعبة قد تفسر كتوريط لها في مواجهة داخلية غير محسوبة، في وقت يعاني فيه لبنان من انقسامات سياسية وأزمات اقتصادية خانقة".
وأضاف المصدر "أخطر ما ورد في كلام باراك كان تحذيره من أن رئيس وزراء الاحتلال الاسرائيلي بنيامين نتنياهو سيذهب إلى أي مكان ويفعل أي شيء إذا شعر أن إسرائيل مهددة . فهذا التوصيف يشكل تبريرا مسبقا لأي عملية عسكرية إسرائيلية جديدة، ويمنح تل أبيب هامشا واسعا للتحرك تحت شعار الدفاع عن النفس. والأهم أن باراك أعلن أن
الولايات المتحدة لن تتدخل عسكريا في لبنان لمواجهة الحزب، ما يعني ترك الساحة مفتوحة أمام إسرائيل لفرض معادلاتها بالقوة، فيما يقتصر الدور الأميركي على تقديم التوجيهات والنصائح للحكومة اللبنانية".
بري
وقال رئيس مجلس النواب نبيه بري: ان ما صدر عن الموفد الأميركي في توصيفه للحكومة اللبنانية وللجيش والمقاومة، توصيفٌ مرفوضٌ شكلًا ومضمونًا، لا بل مناقضٌ لما سبق وقاله. ومما قاله الرئيس بري "ما صدر عن الموفد الأميركي في توصيفه للحكومة اللبنانية وللجيش والمقاومة، هو توصيفٌ مرفوضٌ شكلًا ومضمونًا، لا بل مناقضٌ لما سبق وقاله".
وتابع بري: "نؤكّد في هذا الإطار أنّ الجيش اللبناني، قائدًا وضبّاطًا ورتباء وجنودًا، هم أبناؤنا وهم الرهان الذي نعلّق عليه كلّ آمالنا وطموحاتنا للدفاع عن أرضنا وعن سيادتنا وحفظ سلمنا الأهلي في مواجهة أيّ عدوانٍ يستهدف لبنان، وأبدًا لن يكون حرس حدودٍ لإسرائيل، وسلاحه ليس سلاح فتنة، ومهامه مقدّسة لحماية لبنان واللبنانيين.
وقال بري: "نُجدّد تمسّكنا باتفاق وقف إطلاق النار الذي التزم به لبنان، رئيسًا وحكومةً ومقاومةً، منذ اللحظات الأولى لنفاذه في السابع والعشرين من تشرين الثاني الفائت، في وقتٍ تمعن إسرائيل في خرقه وعدم الوفاء بأيّ من الالتزامات التي نصّ عليها الاتفاق، لجهة الانسحاب من الأراضي التي احتلّتها، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، والسماح للجيش اللبناني بالانتشار بمؤازرة "اليونيفيل" وصولًا إلى الحدود الدولية في منطقة جنوب الليطاني".
سلام
رئيس الحكومة نواف سلام استغرب التصريحات الأخيرة التي أدلى بها السفير توم براك والتي تشكك بجدية الحكومة ودور الجيش. ومما قاله: "أؤكد أن الحكومة ملتزمة تنفيذ بيانها الوزاري كاملًا ولا سيما لجهة القيام بالإصلاحات التي تعهدت بها وبسط سلطة
الدولة على كامل أراضيها بقواها الذاتية وحصر السلاح في يدها وحدها كما ترجمته قرارت مجلس الوزراء في هذا الخصوص. وفي هذا الصدد، كلّني ثقة أن الجيش اللبناني يضطلع بمسؤولياته في حماية سيادة لبنان وضمان استقراره ويقوم بمهامه الوطنية ومن ضمنها تنفيذ الخطة التي عرضها على مجلس الوزراء بتاريخ 5 أيلول الجاري.
صحيفة" الديار" نقلت عن مصادر سياسية اشارتها، الى ان كلام الرئيس بري جاء ليؤكد مرة جديدة على تمسك لبنان كمؤسسات ومكونات، باتفاق وقف إطلاق النار، مع تحميل إسرائيل مسؤولية خرقه، في توقيت بالغ الدقة والحساسية، عشية ما تشهده المنطقة من تصعيد متدرج، وفي ضوء التحركات الأميركية - الإسرائيلية المتسارعة التي تستهدف المعادلات الأمنية في الجنوب، في اطار موقف سياسي شامل في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية، ومقدمة لمرحلة أكثر تعقيداً في الصراع على موقع لبنان ودوره ضمن معادلات المنطقة.
كما ان كلامه، وفقا للمصادر، جاء أيضاً كرد مباشر على ما صرح به الموفد الأميركي، توم براك، رافضا توصيفه للمؤسسات اللبنانية، رافضاً كلامه ما يستوجب موقفاً رسمياً لبنانيًا، ما يكشف عن عمق التوتر القائم بين المقاربة الأميركية للملف اللبناني، وبين ما يعتبره لبنان دفاعاً عن السيادة ومعادلات الردع، في موازاة البُعد الداخلي للبيان، حيث وجّه انتقادات مبطنة لأداء الحكومة، محذّراً من التردد في معالجة الملف الإنساني الناجم عن العدوان، ليؤكد أن الاستحقاقات الاجتماعية هي جزء لا يتجزأ من السيادة الوطنية، في رسالة مزدوجة إلى الداخل والخارج.
وكشفت المصادر بان كلام الرئيس بري يشكل تحصينا للبنان، بوجه المحاولات الاميركية – الاسرائيلية، في ظل المخاوف من سعي خارجي لتوظيف الجيش في إطار مشروع «نزع السلاح»، رافضا أي محاولة لعزل المقاومة أو إحراج الجيش أو الضغط على الحكومة للانخراط في تسوية غير متوازنة، وسط دعوته الى التموضع الداخلي خلف المؤسسة العسكرية لكن ضمن رؤية تؤكد أن «الجيش ليس ضد المقاومة».