لا يختلف اثنان، سواء في
لبنان أو في غيره من دول الجوار، على أن ما مُني به "
حزب الله" باستشهاد أمينيه العامين السابقين السيدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين هي خسارة فادحة وجسيمة لا يمكن تعويضها، وأن مظاهر التعبير عن هذا الحزن جائزة في مثل هذه الحالات، ولكن ليس بالطريقة التي تمّ فيها إحياء الذكرى السنوية للاستشهاد.
فإصرار "حزب الله" على عدم الالتزام بالتعميم الذي أصدره رئيس الحكومة نواف سلام، وإصراره على إضاءة صخرة الروشة بصور الشهيدين نصرالله وصفي الدين، مضافة إليها صورة جمعت الشهيدين رفيق
الحريري ونصرالله مع
الرئيس سعد الحريري لـ "ضروريات رمزية المكان"، يعني أن المعركة بين "الحزب" ورئيس الحكومة ستأخذ مسرى مغايرًا بعد هذا التطور السياسي، الذي له دلالات تتعلق بالقرارات الحكومية في جلسات 5 و7 آب وفي جلسة 5 أيلول، التي قاطعها كلها وزراء "الثنائي الشيعي".
وقد جاءت هذه المناسبة لتفسح في المجال أمام "حزب الله" لتوجيه أكثر من رسال ضوئية إلى جميع الأفرقاء في الداخل وفي الخارج، ومفادها أنه لا يزال موجودًا، وبقوة، على الساحة السياسية، وأنه قادر على رفض ما يراه غير مناسب مع سياساته العامة، وبالأخص في ما له علاقة بسلاحه.
فإصرار حزب الله على إضاءة صخرة الروشة، وهي من أبرز الرموز الطبيعية الوطنية في العاصمة
بيروت، لا يمكن فصله عن البعد الرمزي والسياسي العميق لهذه الخطوة. فالمكان بحد ذاته ليس مجرد معلم سياحي، بل هو صورة للعاصمة ووجه لبنان أمام العالم. وهنا تكمن أهمية الرسائل التي أراد "الحزب" توجيهها إلى الداخل اللبناني وإلى لخارج.
فالرسالة التي أراد توجيهها إلى الداخل اللبناني تقوم على ما يلي:
أولًا، أراد القول بإن حضوره السياسي والجماهيري لا يقتصر على الضاحية الجنوبية لبيروت أو الجنوب أو البقاع، بل يمتد إلى قلب العاصمة وإلى رمزيتها الوطنية، بمعنى أنه أراد القول بأنه جزء لا يتجزأ من المشهد اللبناني العام.
أمّا الرسالة الثانية فهي موجهة في الوقت نفسه إلى خصومه السياسيين: ليقول لهم بأنه قادر على وضع بصمته في أي مساحة رمزية جامعة، وأنه ليس طرفًا محصورًا في بيئة معينة.
أما ثالثًا، فهي رسالة تحدٍّ غير مباشرة بأنه موجود حيث يريد، وأنه شريك، بل طرف مقرِّر في المشهد الوطني، حتى في معالم بيروتية ترتبط بهوية الدولة.
ورابعًا، فهي موجهة بالتحديد إلى الرئيس نواف سلام، وهي تقول إن وزراء "الثنائي الشيعي" باقون في الحكومة، ولكن "معركتهم" السياسية والإنمائية ستكون طويلة وعسيرة في وجه جميع الذين سيحاولون "تدجين الحزب" وتقليم أظافره بوسائل لا تخدم سوى مصلحة
إسرائيل.
أمّا رسائل "حزب الله" إلى الخارج فهي تقوم على التالي:
أولًا، أراد أن يظهر نفسه بصورة مختلفة. فهو ليس مجرد قوة مسلحة مرتبطة بالمقاومة، بل أيضًا قوة قادرة على الاستثمار في الرمزية الثقافية والسياحية، أي تقديم صورة ناعمة إلى الرأي العام الخارجي. من هنا يمكن فهم الرسالة التي توجه بها الشيخ نعيم قاسم إلى
المملكة العربية السعودية.
وهو أراد الإيحاء بأنه من الممكن قراءة الخطوة على أنها محاولة لإظهار أن الحزب لا يتناقض مع صورة لبنان الحضارية، بل قادر على التماهي معها، وربما إعادة صياغتها وفق رؤيته.
ثانيًا، هي إشارة إلى المجتمع الدولي بأنه، وعلى رغم تصنيفه في دول كثيرة كتنظيم مسلح، يمتلك القدرة على مخاطبة الشعوب بلغات رمزية تتجاوز لغة السلاح والسياسة.
أمّا في البعد الرمزي الأعمق لهذه الخطوة فهي:
أولًا، أن صخرة الروشة في الوجدان اللبناني تعني الصمود في وجه البحر، أي في وجه العواصف. وما إضاءتها من قبل "حزب الله" سوى الإيحاء بأنه يربط نفسه بهذه الصورة: قوة ثابتة، راسخة، وعصية على الانكسار.
ثانيًا، هي رسالة بأنه حاضر في "المكان الأكثر انفتاحًا على العالم"، أي بيروت، ليقول بإنه لا ينحصر في جغرافيا محلية، بل يطل على الفضاء الدولي.
باختصار، إن إضاءة صخرة الروشة من قبل "حزب الله" ليست مجرد فعل احتفالي، بل هي موقف سياسي رمزي، وهو تثبيت حضوره السياسي والشعبي في قلب العاصمة، أي تعميم تكريس صورة الصمود، وإرسال رسائل مزدوجة للداخل والخارج بأن الحزب هو جزء من الهوية
اللبنانية بقدر ما هو قوة مقاومة.
الاعتقاد السائد أن "حزب الله" بعدم التزامه بتعميم رئيس الحكومة قد خطا خطوات متقدمة في بلورة عدم التزامه بقرار "حصرية السلاح"، وأن المواجهة بينه وبين رئيس الحكومة ستكون أطول مما يعتقده البعض، وهي لن تتوقف عند عتبة الانتخابات النيابية المقبلة.