اوقدّم سعيد رؤيته للوضع في لبنان وجاء فيها:
هناك شائعةٌ في لبنان /أو ربما "اشاعة"، عمرها من عمر "لبنان الكبير" ، ومفادها أن لبنان الكبير هذا، بوصفه اختراعاً مسيحياً، ومارونيا" بالأخص وبالتحديد، إنما وجد ليخدم "لبنان الصغير"، بضم مساحات جغرافية وديموغرافية اليه، في لحظةٍ دولية مؤاتية، من شأنها – أي هذه المساحات – أن توفر له موارد وإطلالات على العالم، بما في ذلك من موانىْ وأراضٍ، تحصنه من خطري الانعزال والذوبان في آنٍ معاً، كما تحفظ له الوجود الحرَ.
والحال أن هذه الشائعة قد طالت واستطالت في الزمن والوقائع والانطباع Percéption ، حتى باتت جزءاً من "سردية جماعية" على جانبي التكوين اللبناني الحديث: فكثيرٌ من
المسيحيين استطابوا هذه السردية وأوغلوا في أنانيَتها، وكثيرٌ من المسلمين صدقوها وأوغلوا في كراهيتها والشكوى منها.
قُلنا أن هذه السردية عمَرت طويلاً، أكان بصورةٍ مضمرةٌ في حالات الاستقرار والرخاء النسبيين، ومعلنةٌ في حالات التأزم .. وما كان أكثر هذه أو تلك، لدرجة أننا اختلفنا حول قراءة الخط البياني سيرة عيشنا معاً: أهو خطٌ تراكمي صاعد نحو مزيد من الوفاق والاندماج الوطني والرضا، تخللته فتراتٌ من العسر والضيق والخلاف des malaises ، أم هو خطٌ تراجعي هابط، تخللته فتراتٌ من الهدوء والسكينة والتراضي، سمَيناها أحياناً "هدنات"؟!.. والحقيقة أن هذا الخلاف أو الانقسام لم يكن عامودياً كما بدا في بعض الأوقات أو لبعض الرغبات؛ إذ كانت القراءتان أو النظرتان حاضرتين دائماً على جانبي التكوين اللبناني بثنائيتيه المعهودة – الاسلامية
المسيحية.. السؤال إذاً ليس حول وجودهما أو عدمه في هذا الجانب أو ذاك، وإنما حول نسبة هذا الوجود، أي بعبارةٍ يحلو للبنانيين استخدامها في جاري خطابهم السجالي: أكثرية وأقلية!
حول السؤال الأخير (أكثرية وأقلية)، قدمت لنا التجربة التاريخية في مرحلتها الأولى ما بين التأسيس عام 1920 وبين الاستقلال والميثاق الوطني عام 1943 – قدمت اجابة واضحة هي أن التأسيس والاستقلال حققهما لقاءُ أقليتين متضامنتين في الخيار والسير معاً، مقابل أكثريتين متنافرتين في الجانبين. ورغم مأثرة التأسيس والاستقلال، فقد ظلت وساوس الأكثريتين "شغالة" على قدمٍ وساق، تارةً بذريعة الغبن وضعف المشاركة، وطورا بذريعة الهواجس، وفي وقتٍ لاحق بعد تقلبات الأزمنة والموازين بقول بعضهم أن صيغة العيش هذه، في مثل هذه الدولة، أصبحت ضيقة على عرض أكتافنا والعضلات!... هذا ولم تخل شكاوى الشاكين من تبادل الأدوار..
مرة أخرى طال العُسرُ اللبناني le malaise Libanais، مروراً بما اصطلحنا على تسميته بالفتنة الاهلية 1958، متراكبة على أحلاف خارجية ومستقوية بها، وصولاً الى مشارف حرب الخمس عشرة سنة (1975-1990).
لم تبق الحرب شيئاً على شيء، كما علمنا وذقنا جمعياً دون استثناء، ثم جاءت وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، لتصحيح السردية بقولها: "لبنان وطنٌ نهائيٌ لجميع أبنائه (مطلبٌ مسيحيٌ بامتياز، وعقيدة)، عربي الهوية والانتماء (مطلبٌ إسلاميٌ بامتياز، وعقيدة)". هكذا يكون اتفاق الطائف قد أعاد فهم السردية، او انه أعاد إقامة الصيغة
اللبنانية على قدمين اثنتين بدلاً من قدمٍ واحدة تسيران معاً وفي اتجاه واحد، كما "أعاد أقامتها على العدل والأنصاف، لاسيما بعد أن غنَى كلُ فريق موَالَه الى الأخير وشرب كأسه حتى الثمالة"، على قول كمال الصليبي.
والحق يقال أيضاً، أن فلسفة اتفاق الطائف أرادت أن تدحض فكرة تسللت الى بعض العقول، مفادها أن أصل المشكلة يكمن في التعددية اللبنانية ذاتها. أنا مع فلسفة الطائف التي تقول، بعد استخلاص العبر من الواقع والتجارب: ليست المشكلة في التعدد ذاته، الذي هو مصدر غني وثراء، كما هو من شروط أن يكون للبنان معنى ودورٌ ورسالة، ولكن المشكلة هي في سوء ادارة هذا التعدد.. ولنقل إن الفشل و/أو تقصير الإدارات المتعاقبة على هذه "اللبنانية الصعبة" كان من شأنها (الفشل والتقصير) أن صبَا زيتاً على القلق الأصلي الذي اكتنف ولادة الصيغة ورافقتها. وفي سياق هذه الجلجلة المتمادية لا نبرَئ طرفاً من مسؤولية تأجيج القلق، سواءٌ بركوبه التطرف من خوفٍ أو طمع، أو بقلة صبره في التاريخ وعلى التاريخ ... ولعل اللحظة اللبنانية الراهنة، بما يشوبها من تسرع البعض في الذهاب الى نهاياتٍ حاسمة، مع استدارة الزمان دورةً كاملة وانقلاب الموازين في المنطقة برمتها – أقول لعل تسرُع البعض في هذه اللحظة يقدم شاهداً على قلة صبرنا في التاريخ وعلى التاريخ.
تلك هي شهادتي المارونية، اللبنانية، العربية التى رأيت من واجبي أن أقدمها بهذه المناسبة وفي هذه اللحظة الاشكالية الحرجة بالذات. وهذه الشهادة لا ينبغي أن يفوتها التوقف عند شهادةٍ عظمى قدمها المجمع البطريركي الماروني عام 2006، في معرض مراجعته العميقة للتجربة اللبنانية من منظور إيماني مسيحيَ، حيث قال ما فحواه وخلاصته: لم يكن خيار العيش المشترك في لبنان الكبير الذي كان لنا شرف المبادرة والدعوة إليه – لم يكن هذا الخيار بدافع مصلحة أنانية، على ما ظنَ كثيرون وارتكبوا إثم هذا الظنَ، وانما كان من منطلق ايماني. ذلك أن أوجب واجبات المؤمن، أيَ مؤمن، أن يشهد لايمانه في مختلف الأحوال. والشهادة للإيمان تكون أحسن ما تكون بالعيش مع الآخر المختلف، وليس بمعزلٍ عنه خلف أسوار الذات وفي بيئةٍ صافية. إذ ما فضل المسلم مثلاً (و"ما المرجلة") في ان يشهد المسلم لايمانه بجوار مكة، أو أن يشهد المسيحي لايمانه بجوار الفاتيكان؟!... الفضل و"المرجلة" ههنا!
بهذه الكلمات، أو بمعناها، لم تصحح الكنيسة فقط سوء الفهم الذي شاب السردية اللبنانية على الجانبين، وإتما دلت أيضاً وخصوصاً على طريق المصالحة في ذات كلٍ منا بين ايمانه الديني ووطنيته.
واعقب ذلك مداخلات من الحاضرين والتأكيد على أهمية تطبيق اتفاق الطائف. خاصة في البنود التي لم تطبق حتى تاريخه وعلى رأسها اللامركزية.